يعرفه كل أهل القرية..لا يثير حفيظة الكثير..ومتى كان للناس شأن بمثل (سلمان)راعي الغنم؟!...
تذيقه عمته وزوجها كل أصناف الهوان..لم يكد يبلغ العاشرة حتى مات أبوه...وتلحقه الأم الرؤوم بعد أيام قلائل ..تاركين وراءهما كومة لحم من الأطفال الصغار..(سلمان)أكبرهم...ليتولى عمه الوصاية عليهم..وسد ذاك الفراغ الهائل الذي ساقه القدر الأليم...
وليت مأساته اليتم وحده..ليهون الأمر..لكنه كان يعاني من تخلف عقلي آخر..ليتجرع غصص الفقر والمرض والحرمان...
لا يعرف شيئا في هذه الحياة سوى( شويهاته)...يسرح معهن فجر كل يوم..يجوب الصحاري والقفار...ولا يعود إلا إذا احتلك الظلام...وربما عانى في يومه سطوة الوحوش..وعضه الجوع وأضناه العطش...وأنهكه الإعياء والتعب...
وأي فرق بين بيت الصفيح الذي يأوي إليه كل ليلة وبين ما يعانيه في الخارج من ألم ولوعة وبؤس...
سلاحه الوحيد تلك الابتسامة الساذجة التي لا تبرح وجهه الجريح يصوبها في وجه من يعرف ومن لا يعرف في حيلة بريئة لصد أي صفعة أو توبيخ مثلما تعود مع عمته شديدة البأس زوج عمه البغيض...
وفي يوم صيف قائظ ...انحسر قرص الشمس شيئا فشيئا...لتتكوم في السماء كتل سوداء هائلة مبشرة باحتدام وابل عظيم من المطر ..اعتاد الناس على هطوله بغزارة في مثل هذه الأوقات..
وما هي سوى سويعات قليلة وإذا الغيث ينهمر بضراوة...وسط زمجرة الرعود...وقعقعة البروق..وقد لاذ الجميع بمنازلهم وتركوا الخلاء لهدير السيول..تعصف بما تجده أمامها من بشر أو حجر أو ماشية...
انتصف الليل...ولم يعد سلمان كعادته تلك الليلة...
وأمام إلحاح زوجة العم..لا بد من إخبار أهل القرية للمساعدة في البحث عن الراعي.. هكذا لقنته الزوجة أن يقول وإلا فالغنم أولى بالبحث والاهتمام في هذه الليلة حالكة السواد...من ذاك الفتى الطائش!...
هب أفراد القرية.باحثين عنه...في السهول والوهاد...وفي كل مكان من الممكن أن يبيت فيه..وزاد القلق والاضطراب حينما عثروا على الشياه دون راع...
ومع تباشير الصباح...وبينما الشمس تصافح التلال المشبعة بالبهاء...وجد الناس الراعي المسكين وقد انغرز جسده الضئيل تحت أكوام من الرمال التي خلفتها السيول..حتى لم يبق سوى وجهه الجريح قد فارق الروح
وندت منه ابتسامته الخجول...