قصة قصيرة:همس المدائن
محمد أكويندي
إلى عبداللطيف الزكري إنسانا ومبدعا
على طرف الخريطة العلوي،رسم،في شكل جبل عال،عند سفحه تنبطح حروف أربعة،كشياه فقير مهملة ترعى في الطرف:"ط..ن..ج..ة.".من أعلى الخريطة بمحاذاة الخط المتعرج،نزلت بحذر شديد،حتى توقفت عند نتوء ممتد في قلب المحيط الأطلسي،كلسان طويل يلعق بنهم وجشع غول.
ارتعدت فرائصها،خوفا،ثم عادت على أعقابها،من حيث أتت،ومن فوق قمة الجبل كانت تصغي إلى اللسان الذي يلهج بصخب الأمواج،الهادرة:"كازابلانكا."يختفي الصوت،وتختفي معه الحشرة،بعد أن أتعبها التجوال والطواف،من مدينة إلى أخرى،بتقليص المسافة الفاصلة بينهما في رسم الخريطة.
توارت قرونا استشعارها خلف ستارة،ذاكرتي..وحده زئبق البحر يتلامع أمام عيني من بعيد..أقف على حافة سور المعكازين*،أضيق ما بين عيني،وأركز النظر هناك،لأحدد نقطة الحلم،أجدني لا أرى سوى كتل أحجار بيضاء فوق رابية،تحرك في دواخلي حنينا،دفينا،ثم أركز بصري..بصري الباطني..تظهر الحشرة من زاويتها الأولى،تسبقها قرون استشعارها،تلتقط ذبذبات اصطفاق تكسير المويجات في مدها وجزرها.
يوقظني من سهوي،بوخزة مؤلمة،بإصبعه في عتاب رقيق:
-"لا تتعب بصرك،استعن بهذا،أفضل لك."(أشار إلى حيث ينتصب منظاره الأزرق.)لزرقة منظاره،استعارة زرقاء اليمامة،في بعد نظرها.أحببت الفكرة.أغمضت عينا،وركزت أخرى على عدسة المنظار..أرى البرج والقلعة البيضاء،ذاتهما،والعلامة يتأهب للقفز واللحاق..وتلميذه يثنيه عن فعل ذلك..أرى الملوك والأمراء والولاة،والدسائس والغدر..أرى حرائق الجسد والخذلان..أرى جيوشا في حركتي الكر والفر..وبعد ذلك صرت أرى ضبابا يغشي عيني يطلع من أسفل ويلتحم بالسحاب.. باغتني بشك إبهامه في ظهري،كطعنة نصل أموي مؤلم، ،استويت واقفا،فبدأت أماثل ما بين قامتي وقامته القصيرة،وسؤاله الملحاح يردد:
-ماذا رأيتَ؟هل رأيتَ شيئا؟
..في ذعر باد سحبت الحشرة قرون استشعارها،ثم انكمشت على ذاتها،ظانة،أنها مخبأة في مكمن بعيد عن الأنظار.
-ماذا رأيتَ؟
-الضباب !.
مرر بخفة خرقته الصفراء،على زجاج العدسة،ثم أمرني،ثانية،بوضع العين الأخرى،وألا أضغط أكثر عليها،حتى تتضح لي الرؤية.طوعا ركزت عيني اليسرى..تصاعدت الأصوات..الأصوات أولا،تدخل مسمعي بلا انتظام،تتداخل وتتشابك كاسرة حدود الأزمنة والأمكنة،ثم أركز بصري..بصري على مآثر وعمران وقباب قوطية،ومآذن مادة رؤوسها إلى عنان السماء،وصهاريج ممردة بزجاج شفيف حد التماهي بالماء،وأغراس مختلفة ألوانها وفصائلها،مقصوصة بعناية فائقة..سيقانها في سموق أسوار القصور الحمراء،متناغمة في خرير مياه النافورات الراقص على موسيقى الموشحات..أحس النصل ينفذ بين أكتافي موجعا و مؤلما ،والعجب يتطاير من عيني صاحب المنظار:
-ولآن،ماذا رأيتَ؟
..تمططت الحشرة في تكاسل،ثم أخذت تمتحن أعضاءها،الواحد...تتراجع خطوات إلى الوراء،تولي وجهها صوب الخريطة،وكمن وخزها شيئ من الخلف،انطلقت مسرعة تعدو نحو الأمام،فوق خط متعرج،حين شعرت بالأمان،توقفت عند نقطة حمراء،وتماهت مع لونها.أخذت تمرر قرنيها الطويلين على رأسها،أفردت جناحيها،أعادتهما ومدتهما أعلى..أماما..وفي احتكاك حاد ومتواصل،تحرك قرنيها،تأهبا واستعدادا لمواجهة عدو محتمل،أو مبارزة الحروف الماثلة أمامها:"أ..غ..م..ا..ت."
-والآن،ماذا رأيتَ؟
عاد إلى مسمعي صوت الرجل صاحب المنظار..وتلاه صوت،الأصوات،التي واراها ستار التاريخ السميك..كما توارت المآثر والمعالم والمؤلفات والكتابات التي لفها الغيم والضباب المنتشر..
انحدرتُ مع انحدار البوليفار الطويل،أترك لعيني التي أتعبها النظر،أن ترتاح وتتفرج على ألواح زجاج الفترينات النظيف اللامع حد عدم تصديق وجوده،واللافتات التي تصرخ بأسماء إسبانية في وجه المدينة حد التماهي بين الغيم والضباب.
فجأة،برزت قرون الاستشعار،من زاوية الدرب،شاهرة قرنا في وجهي ،كعلامة للوقوف،وآخر كسهم إشارة لأغير الاتجاه المسموح به للمرور..انعطفت مع شارع موسى بن نصير،فواجهتني العقبة الكأداء،والعمارات الشاهقة،التي تستمد تبييض بياضها من بياض الغيم والضباب،أحس مسامي تفرز عرقا نتنا وعطنا،تتقزز منه نفسي التواقة إلى الهواء النقي..بالكاد أصعد عقبة وأنزل أخرى،كأنني في مواجهة فك لغز محير،أو كشف سر،ساحر،بقدرة قادر،حول عروسة إلى خنفساء،تحاول التحليق،عاليا..عاليا..لاحت لي القرون من بعيد،تتراقص في الهواء،كعصا شرطي نزيه،ترشدني أن أسلك الممر الآخر.أنحدر مع شارع طارق بن زياد،صعودا وهبوطا،وأنا أسعف ركبتاي،والرائحة النفاذة،تزكم أنفي وخياشيمي،تخنقني،حتى تدمع عيناي،والدخان يتصاعد ويتعالى،وأصوات بائعي الخردوات..الدروع..الخوذات..السيوف..التروس..السروج..الألجام..تطقطق النيران الحمراء مادة ألسنتها ولهيبها إلى عنان السماء.
..أراها تدب بصعوبة،جارة خلفها أحشاءها البارزة من مؤخرتها،صفراء،لزجة،لدنة،مفرزة سائلا ورائحة عطنة،مقززة،منفرة،تبعث على الغثيان والقيئ،تجاوزتْ،آثار بقع حريق متروكة من بقايا خردوات سوق كاساباراطا،فجأة،انقلبت على ظهرها،أفردت جناحيها،صالبت قوائمها،فرفرت دائرة دورات،راقصة بجنون،وطنينها يملأ الفضاء كأنها تستغيث بحروفها الصائتة:طن..طن..طن...
*سور المعكازين:سور بطنجة يطل على البحر،تتراءى منه مدينة طريفة الأندلسية ،بواسطة منظار..وفي صفاء الجو تبدو جلية بالعين المجردة.
طنجة:أبريل2009