محمد اكويندي عضو فعال
عدد الرسائل : 93 الحالة : قاص مغربي نقاط : 32968 تاريخ التسجيل : 20/11/2006
| موضوع: مــحــوُ الْــــظِّـــــــلِ/ محمد اكويندي السبت مايو 31, 2008 9:47 am | |
| مــحــوُ الْــــظِّـــــــلِ محمد اكويندي لَمَّا بَدَالِي، النَّاسُ غَيْرَ النَّاسِ، وَ الْزَّمَانُ غَيْرَ الْزَمَّانِ، حَنِنْتُ إلى الصَّحْرَاءِ حَنِينَ الإبِلِ لِلْكَلأ... مَا أنْ ضَرِبتُ خَيْمَتِي بِتُخُومِهَا، حَتَّى سَمِعْتُ مُنَادِيًا، يُنَادِينِي، بإسمي : " يَا مُحَمَّدْ ... أَنَا أبُو مَدْيَنَ" فَرَدَّدْتُ مِنْ فَرَحٍ أو خَوْفٍ، مُنَاجِيًّا : " أطْلِقْنِي اليَوْمَ، أو غَدَا." رَدَّ عَنِّي الصَّدَى مِنْ أعْمَاقِ الْمَدَى : أَطْلِقْنِــي الْيـــَوْمَ أو غَــــدَا. " سَرَتْ فِي بَدَنِي قُشَعْرِيرَةً مَصْحُوبَةً بِِِِعَرَقٍ بَاردٍ، فَجْأَةً انْتَفَضَتِ الْخَيْمَةُ انْتِفَاضَةً قَوِيةً بِفِعْلِ أَثَرَ زَوْبَعَةَ رَمْلٍ، أُغْشِيَتْ وأُظْلِمَتْ الدُّنْيَا فِي عَيْنَيَ ...، فَإِذَا بِنُورٍ سَطَعَ بَغْتَةً بِطَلْعَتِهِ الْبَهِيَّةِ، انْتَصَبَ وَاقِفَا بِجِلْبَابِهِ الأَبْيِضِِ، وَأَنَا مُتَقَرْفِصاً أمَامَ خَيْمَتِي، كَأَسيرٍ يَتَرَجَّ طَلاقَ سَرَاحِهِ. بَدَّدَ حُجُبَ الوجَلَ، بَيْنِي وَ بَيْنَهُ، بِابْتِسَامَةٍ مُلَغَّزَةٍ، ثُمَّ بَادَرَني بِسُؤَالِهِ : - مَا بُغْيَتُكَ ؟ - قُلْتُ : إِنِّي أُحِبُكَ فِي اللهِ، فَأَطْلِقْنِي. - قَالَ : فَأَطِعْ مَنْ أحْبَبْتَنِي فِيهْ. - قُلْتُ : مَنْ طَاعَتِي لَهُ مَحَبَّتِي لِمَنْ أطَاعَهُ. أطْرَقَ رَأْسَهُ، وَ تَنَهَّدَ مِنْ أَعْمَاقِِهِ، ثُمَّ خَرَجَ صَوْتُهُ شَجِيَّا، كأنَّهُ شَخْصٍ آخَر مَنْ يُحَدِّثُنِي: - " إِنَّكَ لا تَطِيقُ مَعِي صَبْرَا." - قُلْتُ : جَرِّبْنِي. - فَرَدَّ عَلِي : هَلْ أغْمَضَتَ عَيْنَيْكَ وَقْتَ الزَّوْبَعَةِ . ؟ - أوْمَأتَ بِرَأْسِي، أنَّ نَعَمْ. - حَسَنُ سَأُجَرِبُكَ بِمُهْرِيٍّ أبْلَقْ، وَآيَتَكُ ألا تُكَلِّمَهُ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِّيَة. زَوَّدَنِي بِحَفْنَةٍ مِنَ الْتَمْرِ، وَ أوْصَانِي بِالْحَيَوَانِ رِفْقًا وَ تَوَدُّدًا، مَا أَنْ هَمَمْتُ بِفَتْح فَمِي سَائِلا... حَتَّى اخْتَفَى عَنِّي، وَ انْبَثَقَ مَكَانُهُ مُهْرِيٌّ أَبْلَقَ، كَأنَّهُ جَبَلٌ مِنَ الثَّلْج، لِرُؤْيَتِهِ فَقَدْتُ قُدْرَةَ، النُّطْقِ... فِي طَاعَةٍ وَ خُنُوعٍ أَنَاخَ، حَتَّى، امتطيَتُ، صَهْوتَهُ دُونَ خَوْفٍ أو فَزَعٍ، فَهَمَزْتُ بَطْنَهُ بِقَدَمِي، ثُمَّ أنْطَلَقَ كَالسَّهْمِ يُحَاكِي الرِّيحْ ... بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنَ القَطِيعَةِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، أَثَارَنِي تَقَلُّصُ جَسَدِهِ، الْذِي بَدَا لِي ضَامِرًا كَجِسْمِ غَزَالٍ، ثُمَّ تَرَجَّلْتُ، إشْفَاقًا عَلْيْهِ، فَأْسْرَعَ الخُطَى، مَنْ لََهفٍ أو جُوعٍ، نَحْوَ أشْجَارِ الطَّلْحِ وَ السِّدْرِ... تَوْغَّلَ عَنِّي كَثِيرًا، قُلْتُ، أَتَفَيَؤ بِظِلِّ الْشُجَيْرَاتِ، رَيْثَمَا يَرْعَى الْمُهْرِيُّ...مَرَتْ بِي غَفْوَةٌ، فَغَفَوْتُ، فَإِذا بِصَوْتٍ يُنَاجِينِي، يَا مُحَمَّدْ... أَلْحَقْنِي...ألْحَقْنِي الْمَاءُ بَلَغَ الإِبْطَيْنِ. اسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورًا... كَانَ الْظِّلُ قَدْ تَجَاوَزَنِي إلَى الْجِهَةِ الأخْرَى، وَ شَفَتَايْ تَيَبَسَتَا بِِالْعَطَش، مَررْتُ عَلَيْهِمَا نَدَفا مِنَ الْوَبَر الْمُبَلَّل... تَنَبَّهْتُ إلَى الْمُهْرِيِّ، فَلا وُجُودَ لَهُ.. طُفْتُ بِالشُّجَيْرَاتِ، لَعَلِيَ اقْتَفِي أثَرَهُ، فَلا أثَرَ يُذْكَرُ، سِوَى زَحْفِ الرِّمَالِ الْذِي يَمْحِي كُلَّ أَثَرٍ ... عُدْتُ خَائِبًا إلَى مَكَانِي، تَأْكُلُنِي الْحَسْرَةُ وَالْنَّدَمُ... دَفَنْتُ رَأْسِي بَيْنَ رُكْبَتَي، أَعْتَصِرُهَا، مُتَأسِفًّا.. فَجْأَةً، سَقَطَ ظِلٌ فَوْقِي بَارِدًا كَالْنَّسِيم، وإذَا بِيَدٍ تُرَبِّتُ عَلَى كَتِفِي: لا تَتَحَسَّرْ يَا مُحَمَدْ، كَانَ صَوْتُ مُرْشِدِي، يُرَدِّدُ.. تَنَّبَهْتُ إلَى قَامَتَهِ الْمَدِيدَةِ، وَ إلَى جِلْبَابِهِ الأبْيَضَ الْذِي أصْبَحَ مُنَقطًا بِنُقَطٍ سَوْدَاءْ.. رَجْوْتُهُ بِصَوْتٍ باك: "لا يُشْمَتُ إلا ابْنُ الْحَلالْ" فآمْنَحْنِي فُرْصَة أُخْرَى ... هَرَشَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اقْتَعَدَ الأرْضَ بِجَانِبِي: سَأمْنَحُكَ ثَانِيَةً وَ ثَالِثَةً، فَآغْتَنِمْهَا... إِنْ أفْلَحَت، أطْلَقْتُكَ. الْتَفَتَ خَلْفَهُ، وَ نَادَى غَزَالة، فَأَتَتْ مُسْرِعَةً تَتَرَعْرَعُ بَدَمِهَا وَ لَحْمِهَا. ذَاهِلا فَرَكَتُ عَيْنَاي لأكْثَر مِنْ مَرَةٍ، مُتَعَجِبًا... دَنَت الْغَزَالَةُ مِنِّي.. تَشَمَمَتْنِي بِخَطَمِهَا، أزَحْتُهَا عَنِّي جَانِبًا.. أَعَادَتْ الكَرَّةَ، فَفَزِعْتُ مِنْهَا.. ضَحِكَ أبُو مَدْيَنَ ضَحْكَةً كَتُومَةً: لا تَجْزَعْ سَتَألفُهَا، نَكَسْتُ رَأْسِي، فَقُلْتُ فِي سِرِّي : " كَيْفَ أَرْعَى مَنْ هُوَ أَخَفُّ وَ أَسْرَعُ مِنَ الْمُهْرِيِّ ؟ لَيْتَهُ ائْتَمَنَنِي عَلَى سِحِلِّيَةٍ أَو عَظَايَةٍ. زَوَى مَا بَيْنَ حَاجِبَيْهْ، وَ كَأَنَّهُ يَقْرَأ سَرِيرَتِي، وعَقَّبَ عَلَى احْتِجَاجِي : تِلْكَ لَيْسَتْ هَذِهِ، وَذِي لا كَتِلْكْ... - آهْ، يَا شَيْخِي الْجَلِيلْ، هَرِبْتُ مِنَ الْشُرُورِ، وَ الْغُرُورِ، وَ الإدِعَاءَاتِ الزَّائِفَةِ، وَ النَّظَرَاتِ الزَائِغَةِ، لِأوَاجِهَ الخَيَالَ المُفْزِعَ... - يَا بُنَيَ، أنْتَ فِي كَفِّ اللهِ حَيْثُ الْصَفَّاءُ، هِيَ الْصَحْرَاءُ كَفهُ، الْتِي تَرْعَى فِيهَا أصْفَى مَخْلُوقَاتِهِ وَ أَنَّكَ الْمُصْطَفَى إِنْ وُفِقْتَ فِي رِعَايَتِهَا، فَقُمْ وَ احْرِصْ عَلَى غَزَالِكَ، حِرْصَكَ لَِطَاعِتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَحِينَ مِيقَاتُ مَحَاقَ الْقَمَرْ. وَ قفت عَلَىَّ زَوْبَعَة رَمْلِيَة وَ حَمَيْتُ وَجْهِي بعباءتي وَ تَوَسَّطتهَا، فَاخْتَلَفْتْ عَلَيَّ الْطُرُقُ بِالْمُشَابَهَةِ، وحَيَّرَتْنِي، وَ حِرْتُ، وبَقِيتُ وَاقِفًا بِهَا لا بِنَفْسِي، فَرَأْيْتُ شَيْخِي.. عَانَقْتُهُ، فَأرَشَدَنِي:هَاهِيَ فَأحْذَرْ أَنْ تَفُوتَكَ... إَِنْ تَمَّتْ لَكَ فُزْتَ. انْطَلَقَتْ الْغَزَالَةُ أمَامِي فِي رَشَاقَةٍ وَ خِفَّةٍ، رَغْمَ بَطْنِهَا الْمُكْتَنِزِ بِالْشَبَّعِ، وَأَنَا أَسِيرُ خَلْفَهَا كَالْتَّابِعْ... وَ كَانَ كُلَمَّا نَالَ مَنِّي الْتَّعَبُ أًوْ الْعَيَاءِ، تَبَاطَأَتْ فِي مِشْيَتِهَا، أو تَوَقَّفَتْ، مُنْتَظِرَةً وُصُولِي... دَنَوْتُ مِنْهَا فَرَأَيْتُ عَيْنَيهَا تَنْظُرَانِي، بِهِمَا مَاءٌ، لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ رُوحِي لَتَخَلَّصَتْ، وَخَلُصْتُ إلَى مَعْرِفَةِ غَيْبٍ لَيْسَ بِمُسْتَطَاعَهاَ دُونَهُ وُصُولُ. تَنَبَّهْتُ إلَى نَفْسِي، حَتَّى عَاوَدَتْنِي كَلِمَاتُ مُرْشِدِي الْنَّاهِيَةُ: لا تَفْتِنَنكَ، وَ لا تَغْوِينكْ، أَنْتَ حَارِسُهَا وَ نَاظِرَهَا... إِِنْ شَهدَت مَعَهَا فُزْتَ. تَقَدَّمَ الْلَيْلُ، فَانْبَطَحَتْ الْغَزَالَةُ عَلَى بَطْنِهَا بَيْنَ كُثْبَانِ الْرِّمَالِ، لَتَخْلُدَ لِلنَّوْمِ، تَرَكْت بَيْنِي وَبَيْنَهَا مَسَافَةً قَدْرَ الْجُهْدِ، الْذِّي لا تَخْتَلِطُ فِيهِ أنْفَاسَنَا، ثُمَّ نَزَعْتُ عَنِّي عَبَاءَتِي، وَ اتَّخَذْتُهَا وِسَادَةً، وَنِمْتُ... فَرَأْيْتُ فِي مَنَامِي، شَيْخِي يَشْطَحُ جَاذِبًا وَسَطَ حَلَقَةً مَنِ الْمُرِيدِينْ وَ الْمُرَدِدِّينْ، وَ هُوَ يَتَمَايَلُ بِجَسَدِهِ عَلَى إِيقَاعِ نَقْرِ الْدُفُّوفِ وَ الْصُّنُوجِ... وَ عَلَى وَجْهِهِ رُسِمَتْ عَلامَةُ الْوُجُومِ... بَغْتَةً صَدَرَتْ مِنْ جَوْفِهِ صَرْخَةًَ مَمْدُودُةً و مَمْطُوطَةٌ... كَزَفِيرِ حَيَوَانٍ ذُبِحَ غَدْرًا. فَزِعًا اسْتَيْقَظْتُ وَ الْرُّعْبُ يَتَمَلَكُنِّي ... كَانَ الْوَقْتُ ضُحَى .... وَ الْغِرْبَانُ النَّاعِقَةُ تَحُومُ فَوْقَ رَأْسِي... تَقَدَّمْتُ خُطُواتٍ سَاعِيًا نَحْوَ مَرْقَدِ الْغَزَالَةِ ... يَا لَلْهَوْلِ ... ! يَا لَلْفَظَاعَةِ ... ! اِنْسَحَقْتُ لِرُؤْيَةِ رُسْغِهَا وَ بَقَايَا أَحْشَائِهَا ... أَنْتَ حَارِسَهَا وَ نَاظِرَهَا ... أَنْتَ .... أَنْتَ .... أَنْتَ... تَتَذَرْذَرُ الْكَلِمَاتُ فِي ذِهْنِي كَبَقَايَا رَمْلٍ عَالِقٍ بَيْنَ أنَامِلِي ... أَنْتَ حَارِسَهَا ...هَا ... هَا ... هَا. بَاغَتَنِي صَوْتُهُ الأَجَشُّ : - وَ الآنَ ؟ نَظْرْتُ إلَى سَوَادِ جِلْبَابِهِ، وَ سَوَادِ الْغِرْبَانِ النَّاعِقَةِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا. - تَمْتَمْتُ فِي خَجَلٍ وَ ارْتِبَاكٍ : - " آسِفٌ، يَا شَيْخِيَ ... أَنَا الْذِي أَوْجِبُهُ لَكَ عَلَى نَفْسِي مِنَ الْطَاعَةِ إِذَا دَعَوْتَِني، وَ الائْتِمَانُ إذَا أمَرْتَنِي، وَ الْتَشَرُّفَ إِذَا نَاجَيْتَنِي، وَ الإِنْتِسَابَ إِلَيِكَ إذَا قَبِلْتَنِي. - قَبِلْتُكَ وَ أَحْبَبْتُكَ، وَ لَكِنْ ! ... الْمُهْرِيَّ ضَلَلْتَهُ، وَ الْغَزَالَةَ أَهْمَلْتَهَا، وَ الآنَ ؟... الآنَ لَكَ ثَالِثََةٌ لا بَعْدَهَا .... - أطْلُبُ لَكَ خِلَةٌ صَدِيقَيْنْ، وَاحِدٌ مَاذِقٌ وَ آخَرَ صَادِقْ، تَصَافَى مَعَهُمَا، لَيْلَتَانِ قَبْلَ مَحَاقِ الْقَمَرْ، وَ فُزْ. - آه، يَا شَيْخِي، جَهَرْتُ بِالإنْشِقَاقِ، وَ جَنَحْتُ إِلَى الْوِحْدَةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَفْسِي خَلِيلَةٌ لَطَلَّقْتُهَا. أَوْقَفَنِي وَ قَالَ لِي : بَعْدَ سَدْلِ الْحُجُبِ و مَدِّ الْظِلِّ، سِحْ فِي الأرْضِ حتى يتبين لك الآثار... هَبَّ النَّسِيمُ مَعَ الإِمْسَاءِ وَ الْغُلَسِ، فَوَجَدْتُ نَفْسِي ضَارِبًا فِي أَعْمَاقِ الْمَدَى، فَرَأَيْتُ الكُثْبَانَ كَأَنَّهَا أَجْسَادٌ تَتَطَهَّرُ فِي وَهَدِ الْصَّحْرَاءِ، وَ تِبْر الرِّمَالِ الأَصْفَرِ وَزُمُرُد الْسَّمَاءِ يَتَّحِدَانِ عِنْدَ الأُفُقِ.... وَ رَخَاء الْرِّياح وَ زَحْفِ الْرِّمَالِ، كَأَنَّهُمَا يَدَانِ تَمْحُوَانِ عَنِّي أَثَرَ الْظِّلِ وَ مَعَالِمَ الْطَّرِيقِ. | |
|