المكان المقدس والمكان المباح
أدى الاعتقاد الديني بالإنسان إلى جغرفة المكان حسب درجة الاعتقاد و الآثار المترتبة عن هذا الاعتقاد، فإذا كان المسلم يرى في مناطق الجزيرة العربية و فلسطين أماكن مقدسة، فإن البوذي و المجوسي و المسيحي يرون المقدس في تراب ارتبط عندهم بميلاد نبي أو رسول أو كاهن تواجد بينهم و أدى رسالته ضمنهم ، مما يجعل ما يمثل المقدس في الكرة الأرضية هو ما تخضعنا له النواميس التي تتحكم في سيرورة هذه العقائد الدينية،و التي يترتب عنها الإخلاص المطلق و الدفاع المستميت عن المكان مهما كانت قيمته الجغرافية ( صحراء أو أراض خصبة) و مهما كان المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي للإنسان(فقر-غنى !) لأن التوحد هنا ضروري للحفاظ عن المعتقد و توريثه للخلف حتى يصبح جزءا من الذات و التفكير، تختلف الشروط المكونة له، و لكنها تلتقي في الإيمان به كمصير حتمي، مادام الجزاء الديني سيلغي الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية بين ذوي الاعتقاد الواحد، قال القاضي محيي الدين في المسجد الأقصى عقب دخول العرب بيت المقدس:" ....فهو موطن أبيكم إبراهيم،و معراج نبيكم محمد عليه السلام، و قبلتكم التي كنتم تصَلُّونَ إليها في ابتداء الإسلام، و هو مقر الأنبياء و مقصد الأولياء، و مقر الرسل، و مهبط الوحي، و مَنزلُ تَنَزُّل الأمر و النهي و هو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، و هو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين...." إن قلة الأماكن المقدسة في مقابل الأماكن المباحة يفسر البعد الديني للأولى في مقابل البعد الدنيوي للثانية، ففي الوقت الذي نجد فيه الصراع يمتد من أجل إعطاء المقدس القيمة المطلقة في وجدان المؤمن به إلى درجة يصبح فيها الانتساب إلى المكان امتيازا رغم الطبيعة الترابية للإنسان،فإن المكان المباح غالبا لا يتعرض –رغم شساعته- للنقد المزدوج( ممن يرى أنه أصبح مقدسا بفعل انتمائه للجغرافية المقدسة، و ممن يرى نفسه محروما من الانتماء المادي الذي يبيحه المباح !) و هذا النقد غالبا ما يأخذ طابعا دينيا من الطرفين لأنه يمثل السعي وراء متعة زائلة، مادام العالم له نهاية بدايته المقدس و نهايتها المقدس.
و إذا كان المقدس مكانا مناسباتيا – غالبا- فإن استحضاره لا يكون كذلك، لأنه يأخذ بعدا يوميا في الممارسة العامة للناس، بحيث يتم النظر إليه – رغم الحاجز الجغرافي أحيانا- كمعطى يوجب الانضباط و الانتباه لأنه المخلص من متاهة المكان المباح الشاسع في الحيز و الزمان، خاصة أن المقدس ملك عام لا يمكن التصرف فيه أو تجزيؤه، امتلاكه معنوي أكتر من المباح الذي هو صناعة إنسانية عامة بامتياز،صناعة تتطلب وسائل مادية، مادام يختلف باختلاف الموقع الجغرافي فالمكان البحري ليس هو المكان البري، و المكان الجبلي يتناقض مع المكان السفحي، و المكان في المدينة ليس هو المكان في البادية،و المكان في المركز ليس هو المكان في الهامش فالتجزيء هنا يجزئ الإنسان كذلك، و يجعل الانتماء إلى المباح انتماءا مشروطا بالوضع المادي،لهذا فهو حاضر في الذهن، إقصاؤه مستحيل مادام التفكير فيه تفكير في المصير اليومي، التفكير في الحاضر كضرورة ملحة تستدعي الانتباه إلى المحيط الخارجي كواقع جغرافي أخضعه الإنسان لنزواته و رغباته التي توفرت له بفضل الوضع الاجتماعي و المادي المحصل لديه.
و من هنا نستخلص لماذا كان المكان المباح في كثير من الأحيان مجالا للصراعات الاجتماعية بين الناس، بحيث يتحول هذا الصراع إلى عنف متبادل بين من يستبد بأمكنة معينة توفر له اللذة المباحة دنيويا، و بين من أقصي عن هذه الأمكنة، و أرغم على الاكتفاء بالتصور التخيلي لها، بل هناك من الطرفين من يحاول أن يلوذ بالمقدس ليبرر ترتيب الأمكنة المباحة و أحقيته بها، فيلتجأ إلى النصوص الدينية يدافع بها عن الموقع الذي يوجد فيه أو يريد التواجد فيه حتى يجد لنفسه مبررا مشروعا للفعل و ردة الفعل، فيصبح الانتماء إلى الأشراف و السلالات النبوية معطى يبيح لصاحبه أن يفعل ما يشاء بفعل هذا الامتياز الديني المُوَثَق له، و الذي يرى أنه ورثه عن أجداده.
لهذا نجد أن داخل المدن المباحة مساحات للمقدس تتجلى في بعض التجمعات السكنية التي يمنع فيها السكن إلا على من يحملون صفة المقدس(مولاي، للاا)( نجد مثلا في جنوب المغرب قصورا خاصة بالأشراف لا يمكن أن يسكنها إلا من يحمل هذه الصفة) كما تتجلى في الأضرحة التي تصبح أمكنة دينية تنوب عن المكان المقدس الأصلي، حيث تحمل عبأه
خاصة لدى الفقراء الذين يلوذون بها في غياب القدرة المادية على معانقة المقدس الأصلي( تعتبر بعض المواسم مثلا نوعا من "حج الضعيف" لدى بعض الناس، خاصة و أنها قد تمتد على طول السنة حيث تمارس فيها شعائر تختلف من مكان إلى آخر لكنها تشترك في بعض الطقوس كعملية نحر الأضحية، أو في بعض الأنشطة الاقتصادية كالبيع و الشراء حيث تقام أسواق لا تختلف عن ما هو موجود في مكة أو المدينة، أثناء موسم الحج لهذا فالتغني بالأمكنة المقدسة أصلا أو فرعا يصبح لازمة إجبارية تخلق في نفس المتلقي ما يخلق الرعشة الروحية التي تهز الكيان و تسمو به إلى عالم التصوف و الخشوع :
سلام على بطحاء مكة و الحمى * * * حماها، ففيه المجد و العز حثمـا
بنفسي أرضا قُدُُّسا الله يسترها * * * إليها قلوب الناس يهوين حُوّمــا
بها نشأ الهادي و آباؤه الألى * * * بنوا في سماء الدين بيتا معظما(1)
فالآداب التي تبارك المقدس و تذوذ عنه هي أكثر شيوعا في أواسط العامة سواء أدركوها بالوعي أو الفطرة لتأثيرها المباشر فيهم. فمكة و يثرب و القدس هي مؤلفات مكانية مقروءة و متجذرة في الذاكرة، مترسخة فيها عبر وجدان متحمس إلى تلقي هذا الزخم العارم من المشاعر الفياضة تجاه حمولتها الدينية.
أما الأضرحة المتفرقة في البلاد فتخضع للتصور العام و للتعبير الدارجي الذي يصنع منها مقدسا و لو كان ثانويا، و يمكن ملاحظة ذلك من خلال الأدب الشفهي المغربي، الذي يحفل بالكثير من الأناشيد و الأهازيج التي تنثر الكلام أمام عتبات الولي الصالح، حيث يصبح المريد مطالبا بإعادة اللازمة و لو مع نفسه بل يرى أن الواجب يحثم عليه أن يلقن أبناءه هذه المطالع الوجدانية التي تحقق الرهبة و الخشوع عند أفراد الأسرة فيتسرب إليه هذا المقدس ليصبح جزءا من الطقس المناساباتي الذي يؤطره فتصبح الجماعة رهن إشارة المكان ، تتهيبه هي الأخرى بل تقسم به لتأكيد الإيمان به، تجعله رمزا للمعاملات الدينية و الدنيوية، تمارس أعرافها و تقاليدها في أحضانه(خثانة الأطفال مثلا، حلاقة الرضيع بمناسبة اليوم الأربعين لميلاده، طلب الاستشفاء، طرد النحس، إبعاد العنوسة، السعي وراء النجاح التجاري و المهني).
و يتم ذلك غالبا عن طريق تقديم القرابين الصغرى أو الكبرى بل إن التناقض يمكن أن يلاحظ في الممارسة ونقيضها، قد تجد التكوين العلماني عند المريد مقابل الاعتقاد الغيبي لديه، و هو يتمسح بالمكان المقدس افتراضيا تراه يعيش الحداثة في العمل من خلال صور الأولياء و الصالحين، الصور الشخصية أمام الأضرحة،تأثيث الغرف بالكتب الدينية المختلفة القيمة، تحميل السيارة رموز درء العين و الحسد.
إنها مؤثرات المكان الذي لم يستطع الإنسان التخلص منها.لأنه تشبع بها حدود الوهم، فلم يعد قادرا على تجاوزها، بل إنه غالبا ما يربط مكانته الاجتماعية و مستواه المادي بخضوعه للمقدس و البركة، فهما اللذان يحميانه من نوائب الدهر و تقلبات الحياة،لهذا تراه غالبا ما يقدم القرابيين و النذر للولي الصالح الذي يؤمن به و الذي يعتقد أنه سبب وجاهته و مكانته، بل إنه في بعض الأحيان يوجه، النقد إلى الآخرين الذين يشابهونه في الاعتقاد إلا أن مكانهم غير مكانه، ووجهتهم غير وجهته فتصبح المفاضلة بين الأمكنة مفاضلة ذاتية محضة، فيصبح المقدس المفترض مجالا للمقارنة و الاستنتاج، تعلق الخيبات على عدم احترامه و التشكيك فيه، و تعزى النجاحات إلى صدق الاعتقاد به و حسن النية فيه، بل إن هناك من العامة من يستهزئ بمن يلوذ بولي غير الذي يلوذون هم، فتبدأ الأحكام الجاهزة تتساقط و تتناثر، و تصبح المقارنة هنا مادية صرفة، تقاس بمدى التأتير الذي يمارسه هذا المقدس على المريد، و التحولات التي يمكن أن تقع بسبب التعلق المباشر به و الخضوع له و الانصياع لأوامره.
إنها الازدواجية التي يخلقها الإيمان النفعي و الحاجة السيكولوجية إلى الغيبي أثناء التفكير في قضاء المآرب، فيصبح ّ "اغتيال العقل" مبررا للدفاع عن غيب وهمي متمثل في هذا التقديس الأعمى لحالة تاريخية توفرت لها شروط التقديس بفعل الغنى أو التأثير الأخلاقي (للزعيم) على أفراد الجماعة الواحدة، و من هنا نجد أن القبائل و الأفخاذ و العشائر الفقيرة لا تتوفر على مقدس من صلبها تنتمي إليه و تحتمي به، لهذا فهي توزع ولاءها أينما وجدت نفسها ، ومتى فرض عليها ذلك، فتتبنى بركات الولي الذي يحقق لها النفع المادي و ليس الذي يجمعها و إياه النسب و الدم( علاقة الأشراف ببعض العوام حيث يحاول هؤلاء الأخيرون أن يشاركوهم ألقابهم، خاصة عندما يتوزعون في البلاد، و يتأكدون بألا أحد يعرف حقيقة أمرهم و منبع أصلهم، فيلقبون أنفسهم بسيدي- مولاي- للا)و لو صوريا.
لم يكن للمباح القيمة نفسها التي كانت للمقدس إلا في العصر الحديث، خاصة عندما أصبح المباح امتيازا بالمفعول الأخروي عند الناس، و لم يبق ذلك المباح المشترك، الذي لا يتطلب سوى أدوات بسيطة لامتلاكه،فإذا كان المباح التقليدي يجمع بين أفراد المجتمع الواحد دون انتباه إلى الوضع الاجتماعي و المادي، حيث يتعايش الفقير مع الغني، المتعلم مع الأمي، الشريف مع العامي،فإن المباح الحديث أصبح ذا صبغة طبقية،لأنه صنف الناس إلى أصناف مختلفة و دقيقة، لهذا فقد أخذ يزاحم المقدس في ضيقة، فإذا كان المقدس مفتاحه الإيمان و الاعتقاد، فإن المباح الحديث مفتاحه الوجاهة و المال، فهو انتقال من السماء إلى الأرض.
هناك أمكنة في المدن الحديثة، نقلت الجنة من السماء إلى الأرض:إقامات مغلقة مسيجة توفرت فيها الخضرة و المياه و الإنارة، و النظافة، يحرسها حراس(شداد غلاظ) يمنعون الدخول إليها إلا بأمر أو كتاب !
من هنا يمكن الحديث عن التماهي الممكن بين المقدس و المباح في العصر الحديث، هذا التماهي الذي يحيل على رغبة الإنسان في التفوق على الإنسان نفسه، من خلال وضع إطار ملزم لدخول المقدس متمثل في الوصفة الدينية، و آخر لا يبيح الدخول إلى المباح إلا من خلال المكانة الاجتماعية التي لا يحققها سوى الأجر العظيم.
1:سلام على مكة
ديوان الغلايني ص154 لمصطفى الغلايني