الاستخلاصات الفلسطينية من انتفاضة مصر
بقلم علي بدوان
من نافل القول: إن دروس انتفاضتي مصر وتونس، دروس ثمينة لكل شعوب الأرض وليس لشعوب المنطقة وحدها. فقد أعادتا الاعتبار لدور الشعوب في تقرير مصائرها بعدما اعتقد العديد من الحكام في بلدان العالم الثالث على وجه الخصوص، أن الشعوب ليست سوى قطيع من الماشية يجر من هنا إلى هناك.
فانتفاضة تونس أذهلت العالم بأسره، وانتفاضة مصر هزت المعمورة بسبب بسالة الشعب المصري الذي نزل بألوفه المؤلفة في ميادين المدن والبلدات المصرية من أقصاها إلى أقصاها مطالباً بالحرية والعدالة والكرامة، بعدما اعتقد البعض أن شعبي تونس ومصر قد استكانا تحت وطأة الضغوط اليومية التي مورست على كل منهما من النظامين السابقين وأجهزتهما القمعية البوليسية التي كانت تحصي أنفاس الناس، وتمنع جاهدة على وأد مطالب التغيير وقمع قوى المعارضة بكل تلاوينها السياسية والفكرية الأيديولوجية حتى المؤتلفة مع النظام في الإطار البرلماني.
إن انتصار انتفاضتي مصر وتونس، في المرحلة الأولى منهما، والتي توجت باقتلاع رمزي النظام في البلدين، تفتح الآن عصراً جديداً على مصراعيه في منطقة الشرق الأوسط برمتها، عصر التحرر والديمقراطية، وهزيمة الأنظمة الشمولية الأمنية، وهزيمة أصحاب الاستحواذ على الثروة الوطنية واحتكارها من جماعات محدودة من أصحاب المال بالتزاوج مع أصحاب القرار والسلطة السياسية.
وفي الوقت نفسه، إن الدرس الثمين الآخر من انتصار مصر وتونس، يتلخص تحت عنوان دور الشارع والناس في تقرير مصير الأوطان والبلاد. فكم من الأنظمة الشمولية في العالم الثالث التي اعتقد رموزها أنهم وحدهم من يقرر مصير البلاد والعباد، وأنهم وحدهم من يقرر المسار السياسي والاقتصادي لبلادهم، وأن دور الشعب لا يتجاوز دور (الهتيف والمصفق) لرأي المجموعة الحاكمة المتسلطة على قرار البلاد وثرواتها. فجاءت انتفاضتا تونس ومصر لتكسرا تلك المعادلة المقيتة، ولتعيدا الاعتبار لحركة الشعب ومؤسساته في الشارع والمجتمع، ولحقه في الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة.
إن انتصار تونس ومصر وفي النقلة النوعية من انتفاضتيهما برحيل رمزي النظام، عرت على الملأ التردي الأخلاقي في موقف الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، حيث لعبت سياسات تلك المنظومات الدولية دوراً كبيراً في ستر عورات الأنظمة الشمولية والقمعية في عموم بلدان العالم الثالث، وشكّلت غطاء لها أمام مرآة الرأي العام الدولي. فبالأمس القريب كان نظاما حسني مبارك وبن علي حليفين لصيقين للغرب والولايات المتحدة، وما كان للتغيير أن يقع في مواقف الولايات المتحدة والغرب من انتفاضتي مصر وتونس إلا بفعل وجسارة شعبي تونس ومصر.
إن انتصار انتفاضتي تونس ومصر، أضاف مسماراً آخر في نعش الفشل الأميركي والغربي، وفتح الطريق أمام عصر هزيمة سياسات ووصفات البنك وصندوق النقد الدوليين والليبرالية الجديدة المقدم بثوبها الفضفاض لدول العالم الثالث ومنها بلداننا العربية، عصر إخفاق سياسات الولايات المتحدة التي غطت على الدوام حالات التعسف والإفقار والتخلف وتراجع المكانة الإستراتيجية للدول العربية لمصلحة تعزيز مكانة إسرائيل الصهيونية المسماة دولة «إسرائيل» في المنطقة وفي الإطار الإقليمي، وهي الدولة التي قامت على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني.
لقد هزم شعب الكنانة، وشعب تونس الخضراء، سياسات المراهنة على الغرب والولايات المتحدة، التي طالما تم تخدير شعوبنا العربية وإسكاتها بها، فتبين على الملأ إخفاق سياسة الاعتماد على الولايات المتحدة بحجة امتلاكها لكل أوراق اللعب، وهو الفشل الذي يكشف زيف محاولات الإدارة الأميركية لركوب موجة هذه التغييرات بادعاء حرصها على الديمقراطية في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث ومختلف مناطق العالم، التي تعاملت معها على الدوام بمعايير مزدوجة كما تعاملت وتتعامل الآن مع قرارات الشرعية الدولية وخصوصاً بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع العربي مع المشروع الصهيوني في المنطقة.
إن استخلاص دروس وعبر انتفاضتي تونس ومصر في فلسطين، وإدراكاً لروح التغيير التي طالما تمسكت بها جموع الشعب الفلسطيني في فلسطين والشتات، تستوجب من الجميع في الساحة الفلسطينية، الإسراع باتجاه التقاط فحوى ومضمون ما جرى في مصر وتونس، لاستخلاص العبر بما يضمن تعزيز العمل الوطني والديمقراطي والاجتماعي في فلسطين، وبما يضمن توسيع نطاق الإرادة الشعبية في صناعة القرار وصياغة السياسات والإستراتيجيات الوطنية الفلسطينية، وتجاوز الجمود في واقع النظام السياسي والحراك الديمقراطي.
وفي الوقت نفسه، في اتخاذ الإجراءات الملموسة لتحسين أوضاع الشعب الفلسطيني الاقتصادية في الداخل في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، ووضع سياسة طارئة للمسؤولية الاجتماعية، وإلى تعزيز الخطوات اللازمة لفك التبعية عن الاقتصاد «الإسرائيلي» واتفاقية باريس المجحفة. وتفعيل البرامج الخاصة بالشباب كصندوق الطالب ومكافحة البطالة ومشاريع الضمان الاجتماعي والصحي وتطوير جهاز التربية والتعليم، وتعزيز إجراءات الصمود الوطني. واحترام الحريات وسلطة القانون ووقف كل مظاهر الانتهاكات التي تمارس والتي تضمنتها تقارير الهيئة المستقلة وغيرها من المنظمات القانونية المهنية، وإلغاء تدخل القضاء العسكري في الشؤون المدنية بقرار ملزم من الرئيس تنفذه الأجهزة.
أما في الشتات فإن الواجبات والأعباء لا تقل عما هو مطلوب تجاه الداخل الفلسطيني، وخصوصاً بالنسبة لمخيمات وتجمعات الشعب الفلسطيني في لبنان، التي تعاني من كابوس الفاقة والحرمان.
وفي الجانب الآخر الأكثر أهمية، فإن استخلاص دروس وعبر الانتصار التونسي والمصري، يفترض بالشعب الفلسطيني وكل فصائله، المبادرة من أجل وأد الانقسام الداخلي المدمر وإهالة التراب عليه، عبر العودة إلى طاولة الحوار الوطني الشامل، وإعطاء الأولوية القصوى لتجاوز أسباب الانقسام، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير ولصفتها الوطنية الجامعة لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات بعد سنوات طويلة من التهميش.