قصة قصيرة
الجذور المتوحشة موسى غافل الشطري يتراءى لي جنوح الشمس للمغيب، وزهرة تلقي بعصاها على كتفها، و أنا أهش
من خلفها شويهاتنا.
أتبعها، كأننا ماضيان نحو ذلك القرص الدموي الهائل . كنت أرصد الطيور نقطا سوداء كأنها تتلاشى في ثقبه المعتم . وزهرة تحث قدميها العاريتين.
حافات وبريتها) ( 1 ) تلهبها تلك الحمرة المتوهجة . وتيجان نبات ( الخدم دم ) ( 2) تكتم دندنة خلخالها.
أتبعها صامتا، مثل ظلالها الزاحفة، فوق المروج السندسية ، و قد اكتسبت بهاءا إرجوانيا.
فهل يصدق المرء بأن رحيلها أبدي ؟
أتذكرها جيدا.. و أعيش الذكرى، حتى لو امتد عمري مائة عام .
كأني أنصت توّا ، لشكشكة خلخالها ،تتداخل بحفيف السنابل الهيفاء.ممعنا نظري ، بحمرة ( وبريتها) القانية ، منزلقة من قمّة شعرها الفاحم ، لتستقر على نحرها البض.
أسمع ضحكاتها تتردد، في مروج الحقل . ولم يزل مذاقُ رغيفها في فمي حتى اليوم . بل .. لم يزل .. عطرُ قبلتها على فمي . و جسدي الصغير ، إذ حملته بين ذراعيها ، و أراحته على بساط من العشب ،يقرصني خضالُ خضرته النضيرة ، ثم استلقت و أمطرت وجهي بالقبل.
أتذكر.. أني بكيت لبكائها ، منبهرا بذلك الحب العارم ، ثم احتوتني ، وألصقت صدرها بصدري ، و أحسست أن قلبَها ينبض بعنف .
كنت أسمعُه ، كما لو كان يطرق صدري ، بضربات .. ممعنة بطرادها ، مثل خيول الرهان . كنا وحيدين ، يحتضننا الصمت الجميل . لا يبدده سوى صفير قبّرة وحيدة ، وحفيف السنابل الرهيف .
كنت آنذاك لم ابلغ السابعة ، وكانت تتخطاني بحولين أو أقل.
بين لحظة و أخرى .. نطل برأسينا الصغيرين ، كبنات عرس و نختفي . ثم نلعب ( الختّيلتة )(3) نفترق ، ثم نبحث عن بعضنا. وما أن نلتقي حتى نلتصق بكل لهفة .
وكانت شويهاتُنا تبيح غفلتَها بقضم العشب ، على حافات الساقية .
ذات يوم ..قالت مطرقة برأسها، وهي تنبش بعود شوكي :
ــ ستكبر أنت و تنسى حُبَّنا .و آنذاك..لا نتزوّج .
قلت بسذاجة :
ــ و لماذا نتزوّج ؟ أليس ذلك عيبا؟
قالت:
ــ ولماذا العيب ؟ و أمهاتُنا و آباؤنا ألم يفعلوا ذلك؟
قلت:
ــ حينذاك، تتزوّجين أنت .
أجابت:
ــ هل يمكن أن أتزوّج بآخر ؟
وكأنها أحست بخطر يداهمنا.. فطوّقتني .. و أمطرت وجهي بالقبل .
نبشنا الأرض معا ــ حين اقترحت هي ــ أن نحفر ( نقرة العباس )(4) و نقسم .و أقسمنا: أن لا يخون أحدُنا الآخر.
خبّأتني تحت عباءتها، وبقيت أطل برأسي الصغير ، مشدودا لحمرة و(بريتها )
، ألتي استلقت على نحرها .
أطرقت برأسها فوق رأسي و قالت :
ــ أتلعـــب ؟
ركضنا يدا بيدٍ . وطأنا انتصاب عشب ( الخدم دم ). و استلقينا فوقه . حوت بيدها أزهاره. جمعتُه معها ، وكنت خائفا . أقعت وانحنت برأسها على الساقية . حشرته في رقاق أنفها ، و ضربته بجمع كفّيها مرددة :
خـــــــــــدم دم يــــــــــــــــــا خــــــدم دم
قـــــــــــــــــــدح روب قــــــــدح دم
خـــــــــــدم دم يــــــــــــــا خـــــــــدم دم
قـــــــــــــــــــــدح روب قـــــــــــــــــدح دم
رعفت بغزارة ، و صوّبت نظرَها إلي بانتصار، و ابتسمت :
ـــ خــــائف ؟
كررت مرة أخرى :
خــــــــدم دم يـــــــا خـــــــــدم دم
قــــــــــــــــــــــــدح روب قـــدح دمخـــــــــــــدم دم يــــا خـــــــــــدم دمقــــــــــــــــدح روب قـــــــدح دمتراءت لي.. كأنها تستحم برعافها . و بدت مخضبةً بدمها القاني .
رددت صوتَها بهدوء غريب..و تراءى لي نحرَها ، مذبوحا من الوريد إلى الوريد. و انتفضت (وبريّتُها ) تلهث و تتنفّس دمـــا عبيطـــاً .
* * *
بعــــد رحيلي .. يفعت زهـــــرة. و أحبّت بصــــدق. ناصبتها زوجُ أخيها العداء . وأوغرت صدرَ ه. و اتهمتها بفقدان عفافها.وذات مســــــاء حزيــــن، صحبها أبوها.. و كان أخـــوها ثالثَهم.
كان كل شيء يبدو صـــــامتا. عــــدا .. صفــــير قبّرة وحــــــيدة، و حفيف السنابل الرهــــــــيف.
ظلّت تمشي راسخـــــة القدمـــــين. و إذ.. وصلوا قبالة الساقيــــة، توشح الأفق بحمــــــرة قانــــية، ورســـّخ قرص الشمـــــس، نصفه في الأرض. ثمّ.. ســـاد صــــمت غريب.
كانت زهـــــرة، تجهل حتى ذلك الوقــــت قدرَها. كانت تتوجس أمرا.
ظلّ الصمت قابعا يرتجف. قبـــع تحت سنابل ( الخــدم دم).و انساق نحيب الساقيـــة.. نحيبا يمضي دون خوف . منحدرا ، متعانقا مع صفير قبّرة كامنة .
ظلّت زهـــــرة تجهل بغيتهما . لكن ارتجاف الصمت .. أوحى لها بالخطر .
قــــــال الأب لولده:
ــ أحفر هنــــــــا...
كانت الحفرة تتسع و تتعمّق . وكان الظلام يرخي بسدولـــــه.. لكي يخفي ارتعاش الأثنين.
فقــــال الأب بصوته الواهن المهزوم:
ــ من الذي فعلها ؟
أدركت ما يرميه . فقالت بهدوء و قدم راسخة :
ــ لم يفعل شيئا . سوى .. أنه أحبّني .
قـــــــا ل:
ــ مـــــن هو ؟
قـــــالت:
ــ أذا كنت لا تعرفه ، فلماذا تقتلاني ؟
قــــــــا ل:
ــ مــــن هو ؟
قـــالت:
ــ أقسمنا أن لا يخون أحدنــــا الآخر ، و أنا طاهرةً كما ولدتُ.
قــــادها ا لأب، إلى جرف الساقية . كان الخدم دم المختال ، ينحني تحت قدميها، و كانت الساقية تتهدج بهدوء مسموع . و السنابل .. تتشابك و تطوّح بتيجانها بألم .وكانت القبــــرةُ وحيدة حزينـــــة.
لوى عنقَها .. فوق أزهار الخدم دم المتوحّش، و شخب دمهـــا في مجرى الساقية .
* * *
زهرة..تلوح لي ( وبريَّتَها)الحمراء .. تُطوِق نحرها ، خافقة كالبيرق، وهي
تركض نحو أزهار الخدم دم ، تحشره في رقاق أنفها، و تردد بصوت هاديء جميل ،كأنها تسجد أمام مذبح ، و أنا أُردد معها:
خــــــــــــدم دم يـــــــا خــــــــدم دمقـــــــــــــــدح روب قــــــــــــدح دم خـــــــــــــدم دم يـــــا خــــــــــــدمقـــــــــــــــــدح روب قدح دم 1994 الوبرية: كوفية من الحرير تستخدم لغطاء الرأس للفتيات القرويات( 1)
)الخدمدم :سنابل الثيل يضعه أبناء الريف في انوفهم ويضربن عليه بأكفّهم لينزفوا ،اعتقا د منهم أن ذلك يحسن نظر العين.
(3)الختيلة:لعبة اختفاء ن يبحث البعض عن المختفين.
(4) نقرة العباس: يحفر العاشقان حفرة صغيرة و يقسمان على الخلاص.
(5) الروب : اللبن.
moosashatri@yahoo.com