كلمة خرج النص
وأنا الذي نويتُ كتابةَ هذه الرحلة ، أجدني أرى الأشياء بوضوح ، لا أريد أن أعيد إحياء جنس ثقافي أدى دوره بشكل من الأشكال خلال عشرة قرون كاملة ، وإنما الكتابة عن سفر بوعي يولد من الأجناس التي تشغل مساحات النسق الثقافي والذي يحقق في ذهني أن أكتبَ الرُّحيلة نصا بعدما عشتُ سفرا من مكان لآخر عبورا وحياة أخرى ملأى بتفاصيل ومشاهدات وأحداث .
قرأتُ من قبل عشرات الرحلات كُتبت منذ القرن التاسع الميلادي حتى الآن وكلما انتهيت من نص أحسست بأن الرحالة وهو يتحول إلى مؤلف يُخفي أو يُسقط أو يحور ما يراه ويسمعه .
أعي أنني لا يمكن أن أكتب عن سفر بنفس الشكل الذي يسمى رحلة .
لو قيض لرفقائي في هذه الرحلة أي يكتب كل واحد منهم نصا عن رحلته لجاء كل واحد منهم بشيء مغاير بثمانين بالمائة
كَازَابْلانْكا- تْريبُّولي
ذهاب وإياب
شعيب حليفي
مقدمة العقد
في كل رحلة تتحقق لي فرصة للتأمل وبناء الأفكار واستيضاح الرؤى ، وقد عدتُ إلى نفسي في صيف حار فنويتُ السفر إلى طرابلس الليبية بعدما كنتُ، وخلال سنة كاملة، مُتبرمًا من الانتقال خارج الوطن ، أجد من الأعذار ما أُقنع به نفسي وغيري .
كانت أمامي ، هذه المرة ، لقبول الدعوة ، أسباب أعتقدُها مقنعة لي .أهمها انتهائي من ثلاثة أشغال..فقبل شهر انتهى موسم الحصاد في جو مشبع بالصهد والغبار الحارق والتعب الذي أشعرني بإرهاق شديد .كما انتهى الجزء الأكبر من امتحانات طلبة الإجازة والدراسات العليا ومن مناقشات البحوث ، وأخيرا انتهاء أنشطتنا الثقافية.
كما انجذبتُ إلى رغبتي في الكتابة ، بتقييد هذه الرحلة ، بعدما انتهيت قبل ثلاثة أشهر خلت من كتابة آخر حلقة من اليوميات والتي كنتُ أدونها في نهاية كل شهر خلال عام كامل ، فشعرتُ بالرغبة في كتابة شيء آخر له علاقة بما هو ثقافي ، يعكس مشاهداتي برؤية مفتوحة ...فتشجعتُ وعقدتُ العزم والحزم ، وفي يقيني تدوين "نص رحلي " يأخذ شكل رُحيلة مروضة، أكتبها بروح روائية .
أقول ما قاله في خاطره
يوم السبت عشرون يونيو ، قمت باكرا ، متجها نحو مدينة سطات . وجدتُ بالبيت والدتي التي كانت لا تزال نائمة من تعب خفيف أَلَمَّ بها .جلستُ إلى جوارها نتحدث ونحن نتناول فطورنا ، كما رتبتُ لأخذها ، بعد رجوعي ، لإجراء بعض الفحوصات الطبية بالدار البيضاء .بعد ذلك توجهتُ إلى سوق السبت حيث وجدتُ بويا محمد بن عبد السلام جالسا في مكانه برحبة الأبقار يحكم –كما تعوَّد - بعدله الاستثنائي ، وهو محاط بعدد كبير من المتخاصمين .
وصلتُ في اللحظة التي كان فيها أحد الفلاحين - وتبدو عليه علامات الغفلة والسذاجة- يقدم شكواه برأس منحنية وعيون دفينة .وكان بويا ، الذي يكره المغفلين ، ينظر إليه وهو مشمئز منه ، وربما قال في خاطره :" أنتَ هنا آكُرِّيط في سوق يخشى الشيطان دخوله والمعاملة مع أهله هؤلاء ".
أتممتُ باقي يومي بسطات إلى حدود الساعة السادسة ، في قضايا روتينية بالمقهى ثم بالبادية .
كلمتُ زوجتي بالهاتف كي تهيئ لي حقيبة السفر بما خف من ملابس ، بعدما تعذر عليَّ الرجوع إلى الدار البيضاء تلك الليلة .
في الصباح وصلتُ باكرا ، وفي التاسعة خرجت رفقة علاء إلى سوق السمك والخضار والفواكه، كما أنجزتُ مهام أخرى متعلقة بالبيت ، ثم مررتُ لدى حلاق بشارع الفداء قبل أن أعود في العاشرة النصف ..استحم ثم أحمل جواز سفري وحقيبتي السوداء .
ويضيعُ من قدمي الطريق
في الساعة الحادية عشر والربع صباحا ركبتُ القطار من محطة الوازيس في اتجاه مطار محمد الخامس ، وبعد أربعين دقيقة وصلتُه لأشرع في إجراءات السفر الأساسية ، وكان من المفروض أن تقلع الطائرة في الواحدة ظهرا ، لكنها تأخرت بأربعين دقيقة عن موعدها .
ركبنا طائرة الايرباس 320 - الرحلة 313- برفقة قائدها عبد الله طيرا. وبعد قليل صار طريقنا فوق السحاب على علو يقارب عشر كلمترات عن سطح الأرض ، في طائرة شبه فارغة ربما بسبب بعض الإجراءات التي استحدثتها السلطات الليبية تجاه دخول وخروج العمال.
كنا رفقةً في هذه الرحلة من وفد متكون من : أنور المرتجي ، أحمد حمدان، محمد الداهي ، سعيد يقطين ، عبد اللطيف محفوظ ، مصطفى الشادلي ، عبد الجليل ناظم ، وعبد ربه ، فيما سيلتحق بنا في اليوم الموالي كل من محمد الفران وبديعة الراضي وهي أديبة وصحفية ملحقة بالسفارة الليبية بالرباط ، باقي المشاركين المغاربة هم من النقاد والباحثين الذي يشتغلون بالجامعة المغربية ولهم تآليف في النقد .
جلستُ بالمقعد التاسع إلى جوار عبد اللطيف ، وبعد ساعة قدموا لنا أكلا رديئا ، ولاحظت كما لاحظ صديقي ، في الجهة المقابلة لنا شابة محجبة في حوالي الثلاثين من عمرها ، تحمل بين يديها مصحفا شريفا في حجم كف اليد، تقرأ فيه منذ ركوبنا الطائرة ، لكنها قبل نصف ساعة عن الهبوط بدأت تتخلص من كل ما كان يوحى بالجو الديني الذي كانت مستغرقة فيه ، وأخرجت عُدةً كاملة من أدوات التجميل القادرة على تغيير ملامحها من امرأة مستترة وهادئة إلى أخرى فاضحة .
هبطت بنا الطائرة في مطار طرابلس العالمي في الساعة 4.25 بالتوقيت المغربي (التوقيت الليبي المحلي يزيد بساعة عن توقيتنا) .استقبلونا بحفاوة كبيرة ثم ركبنا الحافلة المخصصة لنا نحو فندق باب البحر حيث آويتُ مباشرة إلى غرفتي بالطابق الخامس غرفة رقم 523 قبل أن أنزل للقاء باقي الوفود وتناول طعام العشاء سويا ، والبقاء منتشرين على الكنبات الموضوعة ببهو الفندق إلى ساعة متأخرة من الليل.
يقع فندق باب البحر بوسط المدينة ،يطل على شاطئ البحر المتوسط ، وهو ثاني أكبر الفنادق بالعاصمة بعد الفندق الكبير ، يحتوي على أربعة عشر طابقا وعلى كافة التجهيزات الضرورية ، وقد وجدناه يعج بالحركة كأننا في "سوق عام "،به ثلاثة مؤتمرات يشارك فيها عرب وأفارقة وأجانب .
كنا حوالي ثلاثين مشاركا من المغرب والجزائر وتونس والبلد المنظم في المؤتمر الذي قدِمْنا للمشاركة فيه وهو حول (علوم السميائيات وتحليل الخطاب: معالم وآفاق ) والذي ينظمه مجلس الثقافة العام .
أنا حر في تريبولي
يوم الاثنين ، هو ثاني يوم لي بليبيا ، وكان نهارا حُرا لأن أشغال المؤتمر لن تنطلق إلا في الغد ، لذلك نزلتُ من غرفتي في الساعة التاسعة صباحا ، تناولتُ فطورا خفيفا ، وفي بهو الفندق كان كل الضيوف يتبادلون الحديث ويستعدون للخروج في جولة جماعية منظمة عبر الحافلة إلى المدينة القديمة .
في النهاية خرجنا رفقة الوفد الجزائري حيث تجولنا وتحدثنا وعُدنا في الواحدة والنصف فتناولنا وجبة الغداء وصعدت إلى غرفتي في قيلولة فسيحة .
في الخامسة نزلت البهو وكنتُ مع عبد اللطيف نتهيأ للخروج في جولة متحررة فلفتَ انتباهي شاب يقف وحده ينظر إليَّ فأشرتُ إليه برأسي مُسَلما ثم تقدم نحوي .سلم علينا بحرارة كما لو كان يعرفنا . اسمه سيد العزيز كما قدم نفسه لنا.ثم سألته عن بلده ، فضحك وقال لنا بأنه مغاربي إفريقي ، جاء لتتبع أشغال المؤتمر وسيكتب متابعة لجريدة القدس العربي .
كان منشرحا ، ولما علم أننا عازمون الخروج اقترح علينا مرافقته إلى مقهى نُحبها .
كنتُ منتبها لكلامه ، فجملة "مقهى نحبها " أمر جعلني أرتاب من شخص نتعرف عليه في بضع دقائق ويُشعرنا بأنه يعرف ماذا نحب وماذا نكره .
وصلنا إلى مقهى بلا عنوان يميزها ، لا يجلس فيها سوى بعض العمال والمعطلين من مصر والمغرب وتونس ، وجوه متعبة ومستسلمة بعضهم أخذه النوم والبعض الآخر يشرب شايه أو يدخن الشيشة .
مقهى شعبي على الرصيف بجادة عمر المختار الممتد من شارع الرشيد والمتقاطع مع شارع درنة ، ذو مساحة صغيرة يحمل رقم 147 ، محاذ لمقهى هويدي ، وهما معا في ملكية المصريين.
لم نجد مكانا فارغا بالكراسي الخارجية السبع ، فدخلنا إلى رحابة ذلك الضيق اللافت . جلسنا بالقرب من صاحب المقهى وهو مصري يدخن الشيشة وينظر إلى الزبائن بعين الشفقة. ومن حين لآخر ينادي على "بِلْيا" صبيهُ المصري .كما تعرفنا على النادل عبد السلام وهو مغربي اعتقل لمرتين ، لا يملك جواز سفره الذي تحتجزه سلطات الجماهيرية .
طلبنا شايا وقهوة بينما طلب سيد العزيز شيشة .وخلال ثلاث ساعات وربما أكثر بكثير ، ونحن جالسون نستمع إلى حكايات عبد السلام وباقي "الوفد "المغربي العامل .ولكن بعد "التبديلة الثالثة" أو السابعة لشيشة سيد العزيز (وقد صرنا نناديه ب"مولايْ لَعْزيز") شرع يعترف لنا بأنه لم يأت لمتابعة أشغال المؤتمر ، ومهد لنا بأن مؤتمرنا هو جلسة للطلاسم والأوهام والكلام الفارغ ، وقال حرفيا :بماذا تفيد السيميائيات في حل مشاكل هؤلاء العمال المنشورين مثل أشباح تاريخية .
استمر ينتقد المؤتمر الذي لم يبدأ بعد ونحن نضحك ونعلق على سخريته وشوقنا معلق على ما سيقوله بعد هذا التمهيد .
اعترف بأنه يحب فتاة ليبية سوداء البشرة ، تُدعى سمدونة وهي ضمن اللجنة التحضيرية للمؤتمر.وكان يصف الأمر كأنه قضية مصيرية لوجدان يحترق .
لم أعره انتباها وواصلنا الحديث والاستماع إلى الأغاني الصادحة من جهاز معلق في ركن حزين ومشبع بالغبار .لكن صوت محمد عبد الوهاب ينتفض وهو يقول :
لا لا لا تكذبي إني رأيتُكُما معا
وَدَعِي البكاء فقد كرهتُ الأدمُعا
ما أهونَ الدمع الجَسُور إذا جرى
من عينٍ كاذبة فأنكر وأدعى وأدعي
إني رأيتكما.. إني سمعتكما..
قاتل وعابد ومذنب
استفقتُ في السابعة والنصف ، وبقيتُ في فراشي بعدما استحممتُ بماء شبه دافئ ، إلى غاية الساعة التاسعة ، أقلب حينا في الكتب التي سلموها لنا من دراسات وقصص وأشعار لأدباء ليبيين ، وحينا آخر أبحث في القنوات التلفزية عن آخر الأخبار .
لم أتناول في فطور الصباح سوى الياغورت وبعض الزيتون فقط .وفي طريقنا إلى قاعة الندوات جلست في الحافلة بجوار سعيد يقطين، الذي يستمتع المتحدث معه ويتعلم ، وكنا نتبادل أطراف الحديث حول الثقافة الشعبية المغاربية. فروى لي بالمناسبة ،وفي سياق التمثيل للثراء السردي الشعبي، الحكاية التالية :
" يحكى في زمن سابق، أن رجلا فقيرا كانت له زوجة ودزينة أطفال فعانى في إعالتهم ووجد صعوبة كبيرة في الاستمرار رغم إن إخوته وأبناء عمومته من الأغنياء . و ذات ليلة قرر الرحيل ، دون أن يخبر أحدا ، باحثا عن الله ليسأله تغيير حاله من الفقر إلى الغنى .
أثناء مسيره وهو يخوض في الفيافي والصحارى ، وبعد أيام طويلة ..عثر في طريقه على خيمة تقف أمامها امرأة . صرخت في وجهه كي يهرب ويفلت بجلده لأن زوجها لو حضر ووجده فسيقتله ليستكمل به وعدا قطعه على نفسه باستكمال مائة ضحية وقد بلغ التسعة والتسعين .
وبينما هي تحدثه لاح طيف زوجها من بعيد ، فأدخلت الغريب بسرعة وخبأته في ركن مهمل ، ولما حضر زوجها سألها فطلبت منه الأمان ، وقالت له بعدما أمنها ان بالبيت ضيفا غريبا .
رحب به وتناولا طعاما وسلمه كسوة ونعالا استبدل بهما ما تقطع عليه ثم أمره بالرحيل فورا عن المكان وسأله عن وجهته فأخبره الغريب بأنه في البحث عن الله ليسأله .فطلب القاتل من الغريب أن يسأل الله عن مصيره.
واصل الغريب السير لأيام أُخَر قبل أن يجد خلوة معزولة بها عابد يدفن نصفه في الأرض ،يتعبد منذ أربعين عاما ليل نهار، وفي كل ليلة يُنزل الله إليه عنقود عنب أسود وخبزة من دقيق الشعير .لكن الملاك الحنون وبأمر من ربي الكريم أنزل في ذلك اليوم، بالإضافة إلى ما كان يأتي به، نصيب الضيف الغريب من عنقود عنب أبيض وخبزة من دقيق القمح .فطمع العابد في تذوق الطعام المغاير لطعامه واستبدلها مقدما للغريب العنب الأسود وخبزة الشعير .وفي الصباح طلب العابد منه أن يسأل الله هل أدرك الجنة أم لا .
في مسيره ظل الغريب يبحث داخل نفسه عن الشعور اللذيذ الذي بدأ يستشعره رغم المعاناة، وهو ما خفف عنه أهوال الطريق .وفي اليوم السابع عن خروجه من خلوة العابد أبصرفي الصحراء العارية ، ووسط الرمال الكادية رجلا يدفن جسمه عاريا إلا من رأسه المتبقي، فاستغرب لحاله وسأله، فقال له بأن الله جعله في الدنيا كلما لبس لباسا إلا ونزعه عنه حتى أصبح عاريا بين الناس، ولما دفن نفسه في هذه الرمال أحس بالستر رغم العذابات التي يحياها .وطلب منه أن يسأل الله عن مصيره .
غادره وواصل سيره في اتجاه مشرق الشمس دائما، وفي اليوم المائة وبينما هو يستريح أسفل شجرة زيتون نزل عليه ملاك بإذن من ربي القدير على كل شيء يحدثه عما يسأل الله .فقال الغريب بأنه يسأل أسئلة الرجال الثلاثة الذين لقيهم، فقال له الملاك: إن الله يقول للأول بأنه قد غفر له كل ذنوبه وجعله من الأولياء .أما الثاني العابد فيقول له ربنا العليم بأنه لن يدرك الجنة حتى ولو عبد الله العمر كله . ويقول للثالث المدفون في الرمال عاريا بأنه إذا لم يحمد ربه على ذلك الستر فسيرسل إليه ريحا صرصرا تطارده أينما حل وارتحل .
وعن سؤال الغريب قال له الملاك بأن الله يدعوه إلى العودة وسيجد ما يريد