بحسب هذه النظرة، مع "الرعاع" و"السوقة" و"الأوباش". إنهم رجال ونساء بدون عمل محدد ومُستبعدون من ساحة المجتمع الفعلية..
ثانياً: الجماهير مجنونة بطبيعتها! فالجماهير التى تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل أو لفريق كرة القدم الذى تؤيده تعيش لحظة هلوسة وجنون. والجماهير التى تصطف على جانبي الطريق ساعات وساعات لكي تشهد من بعيد مرور شخصية مشهورة أو زعيم كبير للحظات خاطفة هى مجنونة. والجماهير المهتاجة التى تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه هو المذنب هى مجنونة أيضاً، فإذا ما أحبت الجماهير ديناً ما أو رجلاً ما تبعته حتى الموت! وهذه الأعمال المتطرفة التى تقوم بها الجماهير ما هى إلا ضرب من أعمال الجنون التى تغذي المشاعر الغامضة وتكشف عن الجانب المظلم من الطبيعة البشرية..
ثالثاً: يزايد الجواب الثالث على الجوابين السابقين ويمشي خطوة أخرى فى اتجاه التهجم على الجماهير ويقول بأنها مجرمة. فهي بما أنها مؤلفة من "الرعاع والأوغاد"، أى من الرجال الغاضبين والحاقدين فإنها تهجم وتقتل وتسلب كل شيء. إنها تجسد العنف الهائج دون أى سبب أو مبرر واضح. وهى تعصي السلطات القائمة وتخرج على القانون. وفي نهاية القرن التاسع عشر تزايد عدد الجماهير فى أوروبا وراحت أعمالها المباغتة تخيف السلطات. وعندئذ راح المفكرون الفرنسيون والايطاليون يتحدثون عن ظاهرة "الجماهير المجرمة"، أى أولئك المجرمين الجماعيين الذين يهددون أمن الدولة وطمأنينة المواطنين وسلامتهم. وهكذا أصبحت الدراسة العلمية للجماهير تمر من خلال "علم القانون الجرائمي". وكان الايطالي سيجهيل أول من بلور هذه النظرية، وأول من خلع معنى اصطلاحياً على مفهوم "الجماهير المجرمة". فهى تضم بحسب رأيه كل الحركات الاجتماعية والمجموعات السياسية من الفوضويين إلى الاشتراكيين. كما تضم العمال وهم فى حالة الاضراب عن العمل، أو التجمعات فى الشوارع..
وبمجيء جوستاف لوبون (1841ـ1931)، رُفضت هذه الأجوبة كلها، واقتُرح خطاً جديداً لتفسير ظاهرة الجماهير، وللرد على سؤال: ما هو الجمهور؟
الميزة الأساسية للجمهور، بحسب لوبون، هى انصهار أفراده فى روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية. ولوبون يشبه ذلك بالمُركب الكيماوى الناتج عن صهر عدة عناصر مختلفة. فهى تذوب وتفقد خصائصها الأولى نتيجة التفاعل ومن أجل تركيب المُركب الجديد! وهذا التشبيه دليل على مدى علمية لوبون، فقد كان غاطساً فى مناخ القرن التاسع عشر. وهذا القرن الوضعي المؤمن إيماناً مطلقاً بالعلم كان يُخضع العلوم الانسانية للعلوم الدقيقة. ففي الجمهور يتبع كل شخص شبيهه المجاور له. والحشد الكبير يجرف الفرد معه مثلما يجرف السيل الحجارة المفردة التى تعترض طريقه. وذلك أياً تكن الطبقة الاجتماعية التى ينتمي إليها، عالية أم منخفضة، وأياً تكن ثقافته! فهذا لا يغير فى حقيقة الأمر شيئاً..
نهض لوبون بشدة ضد آراء الباحثين القائلين بأن الجماهير مجرمة بطبيعتها. وقال بأنها ليست مجرمة وليست فاضلة سلفاً. وإنما هى قد تكون مجرمة ومدمرة أحياناً، وقد تكون أحياناً اخرى كريمة وبطلة تضحى بدون مصلحة. وأحياناً تكون هذا وذاك فى نفس الوقت. وبالتالي فالفكرة الشائعة عن الجماهير بأنها فقط مدمرة وتحب السلب والشغب من أجل الشغب هى فكرة خاطئة..
اعتبر لوبون أن المتغيرات التى تطرأ على الفرد المنخرط فى الجمهور مشابهة تماماً لتلك التى يتعرض لها الانسان أثناء التنويم المغناطيسي. وقد استعار لوبون هذا التشبيه من علم الطب، والطب النفسي على وجه الخصوص. وكان التنويم المغناطيسي قد دخل ساحة العلاج بكل قوة على يد الطبيب شاركو وآخرين. ومارس التنويم المغناطيسي آنذاك سحراً كبيراً على النفوس، ولم نعد نستطيع، نحن المعاصرين، فهم مثل هذا التأثير الكبير بعد أن دالت دولته..!
نظرية لوبون حول نفسية الجماهير، وكما نرى، تحاول أن تنقل إلى علم نفس الجماهير وسائل العلوم التجريبية الدقيقة وأدواتها. وهذا الافتتان بالعلوم الدقيقة كان الصفة المشتركة للمرحلة الوضعية بأسرها كما أسلفنا. ويمكن أن نلاحظ ذلك على مدار كتاب لوبون "سيكولوجية الجماهير"، ومن خلال الأمثلة التى يضربها. فهو يرى أنه كلما اجتمع عدد متفاوت الكبر من الكائنات الحية، سواء أكانوا قطيعاً من الحيوان أم جمعاً بشرياً، بادروا من فورهم وبصورة غريزية إلى وضع أنفسهم تحت سلطة قائد! فالجمهور قطيع طيع، لايستطيع حياة بلا سيد! وظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخصع غريزياً لمن ينصب نفسه زعيماً عليه!
وبحسب الأستاذ هاشم صالح، مُترجم كتاب "سيكولوجية الجماهير"، يترتب على اكتشافات نظرية لوبون الرائدة حول نفسية الجماهير، المباديء التالية(4):
1ـ إن "الجمهور النفسي" يختلف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر فى ساحة عامة مثلاً، أو على موقف باص. فالجمهور النفسي يمتلك وحدة ذهنية على عكس هذه التجمعات غير المقصودة.
2ـ الفرد يتحرك بشكل واع ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لاواع. ذلك أن الوعي فردي تحديداً، أما اللاوعي فهو جماعي.
3ـ الجماهير محافظة بطبيعتها على الرغم من تظاهراتها الثورية. فهى تُعيد فى نهاية المطاف ما كانت قد قلبته أو دمرته. ذلك أن الماضي أقوى لديها من الحاضر بكثير، تماماً كأي شخص مُنوم مغناطيسياً.
4ـ إن الجماهير، أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الإجتماعية، بحاجة لأن تخضع لقيادة مُحرك. وهو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية والمنطقية، وإنما يفرض نفسه عليها بواسطة القوة. كما أنه يجذبها ويسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماماً كما يفعل الطبيب الذى يُنوم المريض مغناطيسياً.
5ـ إن الدعاية ذات أساس لاعقلاني يتمثل بالعقائد الايمانية الجماعية. ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد (أى بالعدوى). ومعظم أعمالنا ناتجة عن العقائد الإيمانية. أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة فيشكلان عقبتين فى وجه الإنخراط والممارسة. ويمكن تجاوزهما عن طريق التحريض والدعاية. ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الموحية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التى تفرض نفسها فرضاً دون مناقشة.
مباديء علم نفس الجماهير هذه هى لجوستاف لوبون بنفس حتمية قوانين علم الاقتصاد أو الفيزياء! يعرف من يستوعبها كيف يحكم الجماهير ويقود مخيلتها! فعلى هذه المخيلة، بحسب لوبون، تم تأثير رجالات التاريخ الكبار، وعن طريق هذا التأثير أنجزت الأديان الكبرى والأعمال التاريخية العظيمة كالبوذية والمسيحية والاسلام وحركة لوثر للاصلاح الدينى ثم الثورة الفرنسية لاحقاً! ولم يستطع أحد فى العالم ولا فى التاريخ أن يحكم ضد مخيلة الجماهير هذه، بمن فيهم الطغاة الأكثر استبداداً! فحتى هؤلاء كانوا حريصين على إثارة مخيلة الجماهير وإلهاب حماسها عن طريق خطبهم القوية وأسطورتهم الذاتية ومعاركهم الحامية!
أحقية الجماهير فى حرية الفكر:
ما أشد ما أحُس بالعار، وأنا أجد نفسي مُضطراً للتبشير بحرية الفكر فى مطلع الألفية الثالثة! فجماهير أمتى ـ وياللحسرة ـ تهرب من الحرية، كأنها خطيئة أو جائحة! ظاهرة فى التاريخ الانساني، فريدة وشاذة، شاء تجار الآلام أن تنمو وتزدهر بين ظهرانينا! عقاب بشع، شاءت عبقرية آثمة أن تُوقعه بنا..
قارئي الكريم، حدثتك فى صدر المقال الماثل عن جبن تجارة الآلام وأصحابها، الذين يُروجون، بدم بارد، لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، والذين يُحلون "الآخر" محل الله! وفى تعريفي لـ "الآخر"، أوضحت أنى أقصد به كل من يحرص على إبقاء الجماهير مغتربة ثقافياً، أى يحرص على إبقاء "الذات" مُستهلكة لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا تملك الحق فى نقدها أو تطويرها..
خدعة ساذجة، ولكنها خطيرة ومدمرة! إقناع الجماهير بخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، وإقناعها فى الوقت نفسه بوجوب إحلال "الآخر" محل الله! النتيجة المؤلمة هى إرهاب الجماهير بإستخدام خرافة التأثيم الالهى لحرية الفكر!