يوسف بلقايد مبدع جديد
عدد الرسائل : 5 نقاط : 28565 تاريخ التسجيل : 05/04/2009
| موضوع: الاتكاء على الذاكرة الشعبية:شعيب حليفي إشراقة فكروتوهج معرفي الأحد أبريل 05, 2009 2:16 pm | |
| الاتكاء على الذاكرة الشعبية شعيب حليفي... إشراقة فكر وتوهج معرفي
سعاد العنزي
الروحانيات والذاكرة الشعبية والذاكرة البصرية التي تلتقط، البسيط، فتصوره بجمالية عالية، وبروح إيمانية عالية، الارتحالات الإيمانية، والغيبيات، والأحياء الشعبية المغاربية، بحميميتها وشفافيتها، وتلقائيتها وعفويتها، ليتحقق التوازن بين دفتين، بين المادية المفرطة، وبين الروحانيات النابضة، إن الذاكرة الشعبية هنا هي الهالة التي تعيد لنا ما فقدناه بلهاثنا حول المادية المفرطة.
الدكتور والناقد والروائي المغربي شعيب حليفي، إحدى هذه الشخصيات التي احتفت بالمكان والزمان بما فيه من أفق روحانية، تسمو بالقارئ عن المادية، وعن الإغراق في الذاتية، عبر دوران حول الهوية الشعبية للبلاد المغاربية التي تشكل جزءا من الهوية العربية، إنه يجمع بين النفس الروائي الشاعري، والعمل الأكاديمي، فتتحقق لدينا متعة التلقي على أوسع مدى. نتباحث فيما بيننا عن إشكالية الهوية العربية في بعض النصوص الروائية، فنجد شعيب حليفي يحتفي بها ويجعلها مدارا تخيليا وحكائيا لسيرته التي هي في طور التشكل، والتي شرع بالتدوين لها بين فينة وأخرى، ليخترق لنا عالمه الخاص، بقضية الكتابة التي بالإضافة إلى كونها اشتغالا أكاديميا فهي بوابة العبور إلى الذات التي اختلطت بالوجدان الجمعي للشعب المغربي، والتي ما إن يتجاوزها قليلا مثلما هي مواسم الفواكه حتى يعود إليها، متسائلا عن أي سحر فيها: »في هذه اللحظات أكون بعيدا عن الرغبة في الكتابة، متبرما منها... فأنسى الكلام والقول قليلا... هل هي حالة من الوحم الطبيعي في نفسي التي تختمر بها عناصر جديدة؟ الكتابة بالنسبة لي مثل عصرة من كل الفواكه، أخرج منها وأعود إليها كلما غمرتني رائحة فاكهة جديدة، وفي كل دخول تسألني نفسي لماذا دخلتُ جْنان المشماش؟» (شعيب حليفي، بخور غشت). فهو يلج عالم الكتابة، ويتراوح بين السرد عن ذاته التي ترسخ وتعتز بكونها جزءا من وجدان جمعي كبير ومعتدا به متفاخرا بتاريخ مليء بالإيمانيات العالية، والبطولات، ورجالات صنعت الأساطير المغاربية ببطولاتها، ونساء ارتبط وصفهن بمعاجم الوليات الطاهرات، اللاتي يستمد منهن إشعاع روحه النابضة بحب الأم والابنة والزوجة، بين «جمهورية مريم» الابنة، و«سطات»، و«بخور غشت» و«أرى ما أريد»، نطوف مع معالم وعوالم شعيب حليفي، التي كانت تحتفي بذاكرة المكان والزمان والشخصيات البسيطة التي شكلت عوالمه المأهولة بالسعادة والإشعاع. كيف نبدأ الارتحال مع سيرة شعيب حليفي، ما إن نمر على طريق فيه رياحين البخور المحتفى بها عنده في معظم أيام الأسبوع
"أما عالم البيت فهو عندي لحظة هُدنة وترتيب للآتي، بعيدا عن مجازفات اليومي. أدخل البيت لأتحرر من عهود طاحنة وملابسات اليومي. لذلك فإنني داخل البيت، فضلا عن القراءة والكتابة، في الصباح الباكر أو في لحظات من نهاية الأسبوع اضطرارا، أعيش الحياة التي أريد. مثلا، يروق لي ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل، من ضمن هواياتي الخاصة، أن أستخرج صندوقا نحاسيا صغيرا أخبئ فيه عددا من أهم أنواع البخور، ذات أصول هندية ويمنية. أتفقدها بتؤدة وتأمل يعتمد اللمس والشم والإحساس الداخلي ثم أختار النوع الذي سأمنحه فرصة مشاركة أنفاسي وأنفاس أسرتي". ( شعيب حليفي، بخور غشت). ومن جمالية السيرة المضمخة بالبخور، يستطيع المتلقي أخذ نفس محملا بالعبير، بالارتحال إلى عوالم تحلق في إيمانيات عالية وإشراقات ربانية، تناديه وتنادينا معه: «كنتُ ما زلتُ مُمدَّدا على الفراش استمع إلى ابتهالاته الطالعة من قلب كبير يخاطبنا ويتأملنا. ثم نهضتُ مع بدء الآذان ؛ لبستُ التْشَامير وبي رغبة في الصعود إلى السطح. صعدتُ فلفحتْني ريح روحانية لا شرقية ولا غربية قادمة من السماء. لم أدرِ كم بقيتُ من الوقت متأملا ومصيخا إلى صوت يناديني». (شعيب حليفي، أرى ما أري)
بدأت الرحلة بسرد بضمير المتكلم، لينفتح على عوالم الأنا بكل ما تفكر به ويدور بها، من دون أن يفتح للقارئ الموهوم بمصداقية السارد، أن يقول له: كيف عرفت؟ ومن أين التقطت هذه المعلومة، ولأنه يقول ما يقول عبر سرد يحتفل بالسيرة الذاتية، التي أنجزت بالحديث عبر ضمير الأنا، تدور حكاية السارد/ شعيب حليفي عبر المكان المغاربي، مدينة الولادة والتشكل، وهويته الأولى التي يعتني بها كثير، ويتحدث عن كل موضع من مواضعها، بنفس شاعري، محمل بالفخر والاعتزاز، فيبدأ بالتنقيب عن معنى الاسم "سطات"، ويذكر أكثر من تأويل في معناها، الذي يرتبط بالنبل والشجاعة، وهذا من بين المعاني.
هذه المدينة التي يبدأ بالحديث عنها، محملا بالحب والانصهار بالمكان، وتشكل هوية واحدة، فهو والأرض أصبحا كيانا واحدا: سطات مدينتي التي أنتسبُ إلى ترابها وروحها وتاريخها، كل شيء فيها يحتمل التناسل والخصوبة بدءا من إنتاج القمح والشعير إلى توليد الحكايات وإلباسها للتاريخ المحلي الحافل بكل أنواع البطولات والكرامات». (شعيب حليفي، سطات). وهذا ما يحقق جمالية المكان وشاعريته، التي تدلل على وعيه بالمكان والاحتفاء به، صنوه صنو العديد من الروائيين العرب، مثل نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، وجبرا ابراهيم جبرا، وادوارد الخراط، التي تقول عنه إحدى الدراسات:
«ودقق بعض القضايا المكانية مثل سطوة المكان من خلال عتبة العنوان والسرد والثيمات (الموضوعات)، وبلاغة المكان لدى بحث الوظيفتين الارجاعية والشعرية (الجمالية) وتغريب المكان وتحولات السلّم رمزاً مكانياً بحضوره الطاغي و"القرد والمكان»، وفلسفة المكان بإضاءة الحالة الروحية واستراتيجية الحواس والتعيين المكاني». «جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر الدكتور عبد الله أبو هيف"* مثل هذا التعيين الحسي للمكان يتوزع على أكثر من مشهد سردي في مقاطع السيرة الذاتية لشعيب حليفي المتوافرة لدينا، فالمكان خالط روح وكيان الروائي، وشكل كينونته، وأهم ما يميز ملامح المكان هو إنه مكان شعبي من الطراز الأول، يحمل ألفة وحميمية الأحياء الشعبية، مطوقا بسرديات شفاهية حول الأولياء، وأغاريد تلتحم وبنية السرد الشفاهي لدى أهل سطات، والشاوية، تلك الأماكن التي التحمت مع تجربة السارد، وشكلت السيرة، التي تتراوح بين المدنية والحضارة تجاورها حياة الريف البسيطة والوثيقة الصلة بالماضي والعراقة، وأساطير بطولات تلك الشعوب، فكان الأحمر بن منصور أحد أساطيرها، كما شهدت تآلف الأنسجة المكونة للشعب المغربي من مغاربة شعوب عربية وأخرى أمازيغية تتعايش بتآلف وتلاحم من دون نعرات طائفية وقبلية وشعبوية، يبدأ نهارها بالعمل والجد مع إشراقة الشمس، وتنتهي: «في لحظات الغروب تتحول المدينة إلى نهر تغتسل فيه كل الملائكة من آثام وتآويل النهارات الطويلة...لتبدأ دورة الحقيقة، وتنطلق من مراتعها الغابرة تلك الرياح التي تتلمس طريقها، يوميا وفي نفس الموعد، تتسلل في البداية من أسفل بطن الغروب المترهل والذائب مثل دموع الفقيرات الوليات الميمونات الجالسات على رَبَوَات مُخضبة بعرق الفرسان الضائعين تعمل على تدوين حكايات الملائكة في مآقي عيونهن بكُحْلها الرباني. (سطات، شعيب حليفي) هذه حكايات سيرة أكاديمي، جمع روحانيات البيئة المغاربية، وأصلها في تفاصيل المعيش ليخرج لنا سيرة تحلق من المألوف إلى الدهشة والجدة والابتكار عبر ثيمات ووحدات نظنها مألوفة فنراها بحلة قشيبة جمعت المتعة واللذة عبر الاحتفاء بالمكان والزمان والإنسانيات العالية. ولكن وإن كان ثمة تساؤل يشغل فكر الباحثة هو: هل السيرة الذاتية دوما الإشارة إلى ما هو منير ومشرق وجميل، أليست هناك سير تدور في متاهات مظلمة، وتجارب مسكوت عنها، تحتاج الإضاءة وتسليط الضوء عليها، ليتسنى للمتلقي معرفة معاناة الأرواح في الوصول إلى ما يروم، فيستضيء بهذه التجربة أو غيرها، ولكن حسبنا أن نقرأ عنوان إحدى منشورات الأديب، وهو: «أرى ما أريد»، لنفهم إن هذا ما يريدنا شعيب حليفي أن نراه من تجربته مع الحياة.
* كاتبة وناقدة كويتية | |
|