ابراهيم درغوثي مبدع جديد
عدد الرسائل : 7 الحالة : قاص وروائي تونسي نقاط : 32150 تاريخ التسجيل : 16/04/2007
| موضوع: الباب الكبير / قصة قصيرة / ابراهيم درغوثي/ تونس الأربعاء يناير 28, 2009 6:16 am | |
| الباب الكبير قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس جاء كل الأحباب إلى دارنا ، فهنأوني بالسلامة وفرحوا بقدومي وهم يسألون عن تلك البلاد البعيدة التي جئت منها هذا اليوم . فحكيت لهم عن الثلج ، وعن الحدائق الجميلة التي تزين الساحات العامة ، وعن النوافير الملونة ، وعن قطار الأنفاق .... وتمنيت أن يصل وأنا أحكي للشباب خفية عن البنات الجميلات الاتي طالما شاهدوهن من وراء زجاج الحافلات المكيفة أمام النزل السياحية . ولكنه لم يأت ... وشربنا الشاي الأخضر بالنعناع . وجاء من تخلف عن الحضور عندما وصلت في أول النهار . ونصب الخوان فأكلنا الكسكسي باللحم وشربنا اللبن . وتحدث الأصدقاء عن غربتهم في بلدهم ، فلعنا الزمن الرديء الذي ما عاد يفرق بين غربة في بلاد الآخر وغربة في بلدك . وجاء الأقارب من كل مكان ، هنأوا الوالدة بقدومي وشربوا قوارير " الكوكاكولا " ، وذهبوا . ولكنه لم يأت ... وجاء المساء . ولم يأت ... ولما يئست من قدومه ، طلبت من أمي أن تناديه . قلت لها ، سأصالحه . ربما هو غاضب لأنني نسيته وأنا هناك في تلك البلاد التي تجعل الأم تنسى وليدها ، فلم أف بوعدي ولم أبعث له بالرسائل التي وعدته بها . لكنها أدارت وجهها وخرجت من الغرفة . ولم يأت ... وانتهت السهرة ، وغادر آخر المهنئين المنزل فطلبت من أمي أن تترك الباب مفتوحا . قلت ، لعله يأتي عندما تهدأ الحركة فيعاتبني ونحن وحدنا بلا حسيب ولا رقيب . ولكنه لم يأت ... وأغلقت أمي الباب بعدما أطفأت جهاز التلفزيون وجاءت تتمدد بجانبي فوق السرير ، فقلت لها : - لماذا لم يات عبد الشافي لزيارتي يا أمي ، هل أنتم وإياه في خصام ؟ قالت ، بعد تردد : - عبد الشافي مات يا ولدي ... قلت مهزوزا ، مهدودا ، مفجوعا : - لا ... أبدا ... هذا لا يمكن ، فلن يقدر على عبد الشافي حتى ملك الموت . ردت أمي على احتجاجي الكافر وهي تربت على كتفي : - لا يا ولدي لا تعد لمثل هذا الكلام ، فتلك حكمة الرب ولا احتجاج على إرادة الله ... ثم أخذت رأسي في حضنها وانخرطنا في بكاء مرير . بعد مدة مسحت دموعها وهمهمت : - مات عبد الشافي . قتله ابن عمه يا ولدي ... قلت في استغراب : - ابن عمه ؟ قالت وابتسامة صفراء مرسومة فوق شفتيها : - نعم ... قتله عندما حكى له عن المستشفى . كان كلما لقيه في الغابة أو في المنزل أو في الشارع إلا وحكى له عن " الخبز " المكدس هناك . قال له إنه كان ينام فوق سرير دي شراشف بيضاء نظيفة ، وإنه كان يأكل كل صباح الخبز والزبدة والمعجون وبيضة ، وإن قطع اللحم في صحون الغداء والعشاء كانت أكبر من جمع اليد . وحكى له عن أكداس صناديق البسكويت التي كان الزوار يحملونها له ، وعن " السجاير " التي ما عاد يعرف ماذا يفعل بها ، وعن الممرضات الجميلات اللاتي كن يبتسمن وهن يبدلن له الضمائد أو يفرشن له الملاحف ، أو يخزنه بالحقن . كان يقول : - آخ يا عبد الشافي ، إن الإبر من أيديهن أحلى من طعم العسل . فصار عبد الشافي يرد على من يكلمه أو يسلم عليه بحنق وغضب . و كان غضبه يزداد أكثر إذا تمنى له محدثه الصحة والعافية . - كيف أنت يا عبد الشافي ظ - لست مريضا . - لا أراك الرب مرضا يا أخي . الصحة كنز الفقراء . - أنا أحب المرض يا صاحبي . أنا ارغب في النوم في المستشفى . - اسعد فألك يا رجل . مالك والمستشفى ؟ - أريد النوم فوق سرير وأكل الخبز و الزبدة كل يوم . - وهل يوجد ما ذكرت في المستشفيات ؟ - يوجد مثله ، وأكثر . جرب وسترى . - معاذ الله يا أخي . - أما أنا ، فإنني أتمنى الساعة التي ألج فيها أبواب المستشفى . هكذا كان يحدث أصحابه . إلى أن كان يوم من أيام الشتاء الفارط . كانت منهمكا في العمل عندما عنت له فكرة عجيبة . قال : لماذا لا أشج رجلي بالمسحاة فأحدث بها جرحا . وهكذا أجد الباب الكبير ، باب المستشفى مفتوحا في وجهي . وضرب رجله بالآلة الحديدية الحادة ، فشجها شجا عميقا سال منه دم غزير استبشر له عبد الشافي وفرح به . كان كلما رفع رجله سال دم غزير على الأرض ، فقص خرقة ربط بها الجرح وذهب إلى المستشفى . عندما وصل إلى قاعة العلاج كان الطبيب المداوم على وشك المغادرة فاستوقفته ممرضة وترجت معاينة رجل عبد الشافي . - ما بك يا رجل ؟ - رجلي سيدي الطبيب ... - ما بها رجلك ؟ - ضربتني المسحاة ، فصارت كما ترى ... كانت بقعة كبيرة من الدم قد تجمعت تحت رجله . وكان قلبه يرتجف وركبتاه تصطكان . لا بأس عليك يا رجل . أنت أقوى من جمل . قالها الطبيب ولم ينزع عن الجرح الخرقة ليرى ما تحتها ثم نادى : يا محمود ، أغسل لهذا الرجل جرحه وضع عليه ضمادة وتحرك الطبيب نحو الباب . لحظتها فقط أفاق عبد الشافي من بهتته ، فجرى وراء الطبيب ودمه يلطخ جليز الممشى . - إذن ، لن أنام في المستشفى يا سيدي ؟ فزجره الطبيب : - وهل ينام في المستشفى كل من به جرح يا رجل ؟ وذهب ، ولم يلتفت للكلام الكثير والسباب القبيح الذي أطلقه عبد الشافي وراءه . وجاء الممرض ، فغسل له جرحه ووضع عليه ضمادة ودعاه إلى مغادرة المكان . خرج عبد الشافي إلى الشارع يجر رجله جرا . لماذا أيها الطبيب تحرمني من النوم في غرف المستشفى النظيفة ؟ أنا لا أريدك أن تغسل الجرح . ولا أن تداويه وتضع عليه الضمادات النظيفة ، فالخرقة وحدها تكفي . الخرقة مع اللحم والزبدة والخبز السخن وأكداس صناديق البسكويت وعلب السجائر والسرير العالي وإبر الممرضات الجميلات ، تكفي لشفاء هذا الجرح . لماذا شججت رجلي بالمسحاة أيها الطبيب ؟ لماذا تركت كل هذا الدم يسيل ؟ لماذا يفغر هذا الجرح فاه كفاه الكلب ؟ قل لي أيها الطبيب الكلب ، لماذا كدت أقسم رجلي إذا كنت ستمنعني من النوم على سرير المستشفى ؟ كان عبد الشافي يهذي في الشاعر وفي البيت .... وكان الجرح يتعفن ... ، إلى أن تخشب جسمه فما عاد في مقدوره الأكل والكلام ... وجاءت سيارة الإسعاف ... لكن الرجل مات أمام الباب الكبير . باب المستشفى .
dargouthibahi@yahoo.fr | |
|