حين يوازي الشاعر بين دق المسمار في النعال والحفر بإزميله في صخر الإبداع
في إحدى الأ مسيات الشعرية قــُدّم الشاعر محمد اللغافي باسم زجال ،ولكن لما قرأ قصيدته " أصابع ضائعة "،تململت الأرض تحت قدمي ، أهداني ديوانه تلك الليلة وتفحصته ،كان الزلزال الأعظم حين اكتشفته مبدعا حقيقيا يجب أن يشار إليه بالبنان .
هو الإسكافي العصامي محمد اللغافي: شاعر مغربي استطاع من رماده الخام صنع بريق البهاء ..
الذي وازى بين دق المسمار في النعال والحفر بالإزميل في صخر الإبداع بخمس مجموعات شعرية طبع أغلبها على نفقته رغم قلة ذات اليد ، من بينها التي بين يدي المعنونة ب" حوافر في الرأس" التي تمتد على 61 صفحة تضم 16 قطعة تتفاوت في الطول والقصر ...
1- الشكل
**الغلاف
------
على غير عادة الشعراء رفض الشاعر تزيين إحدى دفتيها بلوحة ،واكتفى بوضع عنوان المجموعة في الأعلى ،وقطعة شعرية متناثر كلماتها ، لتختتم أسفل الغلاف باسمه،الكتابة باللون الأبيض على سطح زرقة مطلقة واضحة ،وقد تصبد هذه الروعة من غيوم بيضاء متفرقة في زرقة سماء صافية ،أو زبد الموج الأبيض على مياه البحر الزرقاء ،وتتوسط دفة الكتاب اليسرى صورة الكاتب باللونين الأبيض والأسود....
**العنوان
---------
" حوافر في الرأس" هو العنوان المختار لهذه المجموعة...الحوافر : تعني ما يقابل قدم الإنسان لدى الدواب ،وما تخلفه من أثر في الطريق ،ويقصد بها الشاعر المطارق التي تنهال عليه جراء الهموم والمشاكل،وما تخلفه من قلق وتوتر حين البحث لها عن حلول ، وما تجتبيه من تساؤل مطلق أجوبته في كنه المستحيل ...
2- المضمون
**التيمات
-------
اتسعت المجموعة الشعرية لعدد من التيمات ،كان أثرها بالغا في نفسية الشاعر ،جمع ثمراتها المرة من واقعه المعيش ،ليقدمها لقرائه على طبق نسجه من نبضه وحسه المرهف ومشاعره الصادقة ،وشاعريته الجميلة ،مذبوحا بعشقه للوطن ،ملتصقا بهموم الشعب ،محتضنا المرأة ،متمردا على سفن الحرب مكتويا بجمر الحب، ليخلف بصمة صارخة في دوي الإبداع ...
1- الوطن:
يستهوي الشاعر عشقه للوطن حد الهوس، يتقاسمان معا الحب والأحزان ،فيحمله معه في قلبه في روحه في نبضه في دمه
ولأنني أعشق وطني
أخذته معي
ص:9.
يغوص الشاعر في بحر العشق لوطنه إذ أنه بمجرد ابتسامة أو قبلة ساخنة على خديه في حنين يستطيع حل المعضلة وفك الإشكال،ويقصد الشاعر تعويض ما يحس به من فراغ من ضياع بحبه الكبير للوطن ...
أستطيع
أن أرش كل هذا الفراغ
بضحكات متقطعة
وصمت طويل
ص:27.
ويقول:
وقبلة
ساخنة لخديك
ص:28
2- الحرب:
يلتسع الشاعر بلعنة الحرب وماتخلفه من دمار و استياء في نفوس الضحايا غير مفرقة بين الكبار والأبرياء الصغار:
وفراش صبية
لم يمهلها
الوقت
كي
ص:7
حيث تؤدي إلى تشرد المواطن، وتهجيره إلى مناطق أخرى في اتجاه مجهول يفقد على إثره الاستقرار، تاركا ممتلكاته، وعائلاته ووطنه هاربا من سياط القتل.
هاربا
في اتجاه فقدان الفصول
لازمان
ولامكان
ص:10.
راحلا في شساعة الكون لا يحمل معه غير الذكرايات ،
لي
ذكرياتي
أقوس لها ظهري
كلما جد الرحال
ص:9.
يظل الشاعر متمردا على الحرب، يشجب بشدة ما تتركه من خسائر مادية وبشرية تتجلى في الحوادث الدامية ، وكثرة الأرامل والأيتام ،حتى غدا وجود الشاعر كعدمه حين يعجز عن فعل أي شيء كرد فعل ..
ماالذي أستأنفه
بعد أن تستحم الأرامل بدمي
والأيتام
ص:12.
بل أحيانا تستبد به الغرابة حين يتلمس ذاته غير مستقرة في مكانها،وذهنه مشتت،تائه عما يقدم عليه،وعما يفعله ،ولما يبلغ به الضياع قمته يقول:..
ولا في ..
أي مقهى
تركت رأسي مسمرة على الطاولة
ص:13
وطبعا هذا الضياع كان نتيجة تأمله لِما يكتنف العالم من لبس من جهة و من حافة ثانية هيمنة لغة الحرب القايلة ، التي تأتي على الأخضر واليابس،ولاتبقي من الأشياء غير صورها، وملامحها الباهثة ،وأرض جريحة..
الأرض
ستبقى جريحة
طيلة سهرة الحصاد
ص:25.
وبعد وصف القتلى والجرحى والدم والجثث، يمر الشاعر محمد اللغافي مستعرضا وضعية الجندي الذي كان قبل الغوص في غمار الجندية و الحرب ،تساوره أحلام بغد أفضل .. فقادته الجندية إلى القتال متنحيا عن حلمه.. عازما عليه إلى آخر رمق من حياته..
أينما كنت
كان حلمك أبهى من بسمة الفجر
ص:44
ويقول:
..
أخطأتك الفراسة
فانتعلت
حذاء
ص:45.
ويقول في نفس الصفحة ..
إلى أن
يسيل جسمك في وردة نار
.
3- هموم الشعب
يطوف الشاعر بعين مجهرية، جاردا قائمة طويلة من الهموم الإنسانية المتنوعة ،منغوزا بإبر وضعية المرأة ،متدحرجا بين النكبات المفاجئة ، مكتويا بفواجع الموت حيث وهبها حقها من النبض …
هذه نكبة " أوريكة" وما خلفته زوبعتها الشديدة من ضحايا ، تهز وتره فيقف منتصبا واصفا بتدقيق الجثث المتناثرة في الطين ، من أطقال و،وعشاق ،في لحظة هيستيريا مباغثة ..
بدأت السماء تلوح بغيمتها
تلوح
تلوح
تسقط أوريكة في الغيمة
ص:48
ومن أوريكة يرحل الشاعر سارقا بعض المذاهب من الشعراء الكلاسيكيين ،ناقرا بوابة الرثاء مناجيا روح الشاعر" أحمد بركات" يبكي فيه مغادرة وجوه أصحابه وأشيائه ، مما يدل أن الشعر مهما وصل اليوم ذروته قي الحداثة، إلا وتنفلت منه أحيانا التفاتة ولو خفيفة إلى جذوره وأصوله التي كانت أول النبع ...
هل تعجبك مغادرة هذه الوجوه الغاصة في الوحل
الرموز
أواه يا أحمد
تركت أشياءك
ص:40
ويحس بلوعة الفراق التي تحفر قلبه قطرة قطرة ،متسائلا عن سبب إزعاجه ومغادرة أصدقائه...
ماالذي أرعجك
لتغادرنا هذه المغادرة الشامخة
ص:42.
ومن جو الرثاء يحلق طائر الشعر عند الشاعر محمد اللغافي نابشا في القوالب اليومية ، يتعقب بعض اللحظات اليومبية ،فيؤسس لها ركنا في مملكته الشعرية واصفا لنا فترة الصباح أثناء الصحو ، وماتحييه في الروح من بهجة بهدوئها ونسيمها العليل ، حتى يتراءى له العالم كله ضاحكا .
هذا النهار
يبدو العالم ضاحكا
كالنسمة التي ..تتهيأ لي على خديك
ص:51.
وأحيانا يصف لحظات المساء وما تطبقه خيمتها من سكون حد الموت ، حيث تنعدم الحركة باستثناء الشاعر الذي يقضي لياليه يكابد ما يجتاحه من ألم وحزن ، حتى لا تطاوعه رغبة في النوم ،
هذا المساء
مفعم بالموت
ويقول:
كم يمكن ان أعيش من الوقت
بدون رغبة في النوم
ص:52.
والدقة في هدهدة للعالم ،والتماهي مع مكوناته ، وتجسيد ألوان الهموم دون استثناء ،جعلته يستنطق حتى عالمه الأسري، مبعثرا مكنون بيته ووضعيته من خلال واقعه المعيش ، وهذه رزمانة من الوصايا إلى ابنه في أول تعلمه الحروف ، يوجهها إليه ليبتعد عن القصيدة ،ولا يقربها لأنها مجرد أوهام تائهة تأمر بالمعروف ، ولكنها تستغفر الشيطان..
سيدة
تعوم .. في شطآن الأوهام
توهاء...
ص:54.
موضحا ما فعل به الحرف قاصدا لغة الشعر النارية ،التي ترحل به في ذاته متخطية الأشياء ،حاملة في مطاويها الحب والموت ..
تلتقط مسارات العبور
والموت
ص:56.
ويتدرج الكاتب من الكل إلى الجزء ،فبعد أن طاف في أرجاء الكون، مستعرضا الآلام والأحزان والحروب والهموم ،يعود من رحلته ليبتدئها في ذاته في غربته ،موضحا على مرآة الشعر وضعية محمد اللغافي الشاعرالمحروق بلهب واقع موبوء ، كلما وزع فيه ناظريه خارج النافذة .إلا ورجعتا دامعتين ..
ارم بعينيك
من شق أي نافذة مغلقة
تعود إليك دامعة
ص:58.
وحرارة الألم هذه لن يطفئها دواء الأسبرين ،ولا إدمان القهوة السوداء ولاالتدخين ،إلا النهاية الحتمية بالمرة ..
لاشيء
سوى أن
تلفظ أنفاسك
في زفرة واحدة
ص:59
4- المرأة
ولم ينس الشاعرالنساء للسفر بهن في درب الشعر، وتمتيعهن بنصيب الأسد من مشاعره ،حيث قسم عليهن تركة شعره بالتساوي، فلم يميز بين المومس والمشردة والفنانة والمعشوقة ،والحبيبة ...عن المرأة المتسكعة في الشوارع يقول:
لا مكان لها
تتلمس التيه..من داليات الحلم
ص:30.
وماغرضه غير استجلاء هشاشة الوضع المخبوث ،الذي يفجر ألوانا من الضياع ،وفضح زمن حارق للأحلام والرغبات
زمن القيء
يفجر فينا طقوسه
تجيئنا السماء..بكل نوافذها
نفس الصفحة..........
كما يستفرد الشاعر بالمرأة المكتوية بنار العشق ،فلا يبخل عليها هي الأخرى باحتوائها ومدها بها ماهو جميل بإعلاء الصرخة.نيابة عنها.
بغتة يا حبيبي تغيب
وقلبك يخفي
أسرار هذا الغياب
ص34 .
وبالتساوي تحظى المرأة العازفة بنصيبها الأوفر من المشاعر النبيلة، هذه الفنانة التي استطاعت ضرب مضاجع الشاعر بالنقر على أوتار موسيقية ،فأناغت قلبه وروحه وعمقه ..
أنت أكبر من هذا اللغز
ماذا لو تحديت زرياب .. وترتبين أغنية للإله
ص:20
5- العشق
ينسل الشاعر من خيط رفيع ، فينحو منحى آخر ،مختزلا ذاته في العشق بكل صنوفه :فهو عشق الوطن وعشق المرأة وعشق الحب وعشق الموسيقى، وعلى ضوء هذا كله ترجم مشاعره المرهفة وحسه الرقيق إلى الحرف ،واصفا بعناية فائقة قمة الذروة التي كان يصل إليها بصدق ملموس ...
- المحبوبة :
وهذه محبوبته يعاهدها على وفائه وإخلاصه لها ،متخوفا من انقلابها عليه في يوم من الأيام...
عزيزتي
الحب لغة ضد الحرب
سأكون حريصا
ص:49.
لكني
أخاف
أن
يتغير ماء عينيك
ص:50
- الموسيقى :
ويعشق الموسيقى حد التيه، فيراها تعبيرا جامحا ،تسبح بالمرء إلى قمة الخيال ،ولا فرق بينها وبين الشعر في تأدية الوظيفة ،من حيث ملامسة المشاعر ،وزرع المتعة في الروح والجسد ..
ولغو الشعر
في غسق الأمسيات
هو الخيال...والعزف...
ص:20.
ومن هنا يبدو أن الشاعر عاشق للموسيقى ،تسري فيه سريان الشعر في العروق ،فيتمنى لو تتحد معه العازفة ،لخلق معجزة في هذا الكون ، بتوحد نغم القانون وإيقاع الشعر ..
في الحين ..نبعثرالقواميس..لنبحث عن شمس الليلة الأخرى
من نفس الصفحة ...
6- القلق :
كما سكن الشاعر عشق لا محدود . اكتنفه أيضا اغتراب مطلق في روحه، في ذاته في جسده ،جعله يعيش قلقا من نوع خاص ..
والاغتراب المورق
بين
ثنايا الروح
ص:22
حيث يتغمد الشاعرَ عرمرم من الأسئلة العالقة ملتبسة إما تفتقد الحلول أو أجوبتها في كنه المستحيل..
ومشحات
وأسئلة عالقة
ص:14
ويقول:
وكثيرا من الأسئلة
تتسكع
ص:24.
لا ينفلت من هاجس المقبل والآتي من الزمن ،في تساؤل مطرد معلقا عليه الأمل ،عله يأتيه بيوم جديد،يخلصه من رتابة الأزمنة ..
أين
أخبئ عيني
لأزمنة لاحقة
صك14
ويقول من نفس الصفحة :
لأني
سأتخلص تماما
من رتابة الأزمنة المنظمة
3- الجانب الفني
*- اللغة:
توفرت للشاعر إمكانات واسعة لاقتفاء أثر الحداثة متسلقا جذعه بكل تحد، ناهجا الشكل غير المألوف ، محطما التنميط والقرائن التقليدية ،قافزا على الثوابت الجاهزة والقواعد الثابتة تحت طائلة من الخاصيات ، بلغة شاعرية غير معتادة اقتنى كلمات معجمها بحذر شديد تتنمق ين الدقة والجمال مما أضفى على قصائده مسحة من الروعة ..
هي.. اللمسا ت الملكوتية في يديك ..وكل الأنام تذوب
خجلا من عينيك ..
ص:21.
*-المسرح
- يرشق الشاعر قصائده أحيانا ببهار التمسرح ،ليدخل بنا لعبة جديدة في الصياغة، موظفا الحوار بأسلوب شيق، حتى تتراءى الأحداث وكأنها مشاهد حقيقية على الخشبة ...تابع معي أيها القارئ هذه اللوحة الجميلة من القصيدة الأولى "أصابع ضائعة"
طقوسك غريبة.. قلت له:
- ماذا حملت معك؟
- جسدي ولا شيء
- غير هموم الفقراء
- وذنوب الأثرياء
- ص:6 وص:7.
*-المتنافر من الأشياء
ينهل كلماته من معجم دافئ مبعد تماما عن الغرابة ،أو الدخول في المنغلقات الملغزة المبهمة ،مراوغا اللغة على إيقاع همس شفاف يدغدغ في لطف عواطف المتلقي ،لتجذبه في رقة ساحرة وفي وضع متنافر لكن بتركيب فني عال.
قدماي غبار. متنقل
بين أسوار الريح
ص:35
ويقول :
جدران مهشمة بالهواء
ص:47
أعيد لهذا الوجه مرآته التي كسرتها رغوة البحر ..
ص:19
*- الصور الشعرية:
لقد كانت للشاعر براعة قوية في تطريز القصيدة بألوان من الصور الشعرية المكتنزة لدلالات متعددة ،ومعاني متوالدة ،عرف كيف يقتنصها بدقة متناهية ، لتتموج على حصير القصيد، ترصع حواشيه بماسات الروعة ،مشكلة لوحات فنية رائعة بألوانها النضاحة ...
وكل الكلام ارتخى
وتدلى على الأعماق
ص:33.
تتساقط
من بين أصابعهما
الأجساد
جثة
جثة
ص25.
إذن من خلال هذه الدراسة المتواضعة لديوان "حوافر في الرأس" يبقى الشاعر محمد اللغافي صوتا وصورة ،من الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان ،إذ فتح قميصه على متن شعري، لملم حباته من واقع متورم ،يرحل فيه بمخيلته ،موحدا نفسه والأشياء حد الاغتراب ،متأملا الكون ،واضعا إصبعه على المتنافر والملتبس منه.ليضيئه من زاويته الخاصة ...
بتاريخ 20/12/2006
__________