قراءة في ديوان ضد اليابسةأو بهاء النسيان
لمبارك الراجي شاعر طافح بالصور
محمد اكويندي
إذا كان الشعر في أسمى تصور له ينبع من مصدرين، من جدية غامضة تكمن في اللاوعي .. فهو سرد تصويري، لتجربة تختلط فيها الحياة باللغة، ويتزاوج فيها المعنى بالمبنى.
فإنني أضرب مثالا لما أقصده بالسرد التصويري. ففي قصيدة (حرب) التي تحكي، أو تسرد حكاية (العم موحا) العائد من الحرب، الذي كلفته فقدان أصابعه التسعة، كما جاء في القصيدة :
العم( موحا*)
فقد أصابعه في الحرب
فصوله الأربعة
في طريقه إلى الفصول
الخنصر الوحيد
في كفيه يلعب
(الضاما**)
يمسح شعر امرأة
انتظرته عشرين عاما.
نجد في شعر الراجي مبارك، الصورة هي نسق الفكرة الرئيسية، وإن كانت استدراكية كما في هذه القصيدة التي تسرد بالصور حكاية هذا الجندي عمي (موحا) وإذا تمعنا في كلمة ـ تحول ـ الطاولة أمامه إلى صين صغيرة من دماء ونياشين. (لكن) الخنصر يشير إلى أن المكان خشب. وأن الأصابع في مكان ما قبر صغير. خنصر صغيـير. في عزلة من لحم هو موحا كاملا .
سنجد بعد كلمة ـ تحول ـ لكن ـ الاستدراكية للفكرة الرئيسية التي لم يرد الإفصاح عنها مباشرة، ألا و هي ـ تحول ـ العم موحا بكامله إلى عزلة من لحم، الذي ستقلصه هذه الصورة الشعرية إلى خنصر صغييــــر (بتضعيف الياء) كما جاء في القصيدة. هذا التلاعب بالصور، هو ما جعل ديوان بهاء النسيان ينماز بفرادته و تميزه،إلى حد السخرية السوداء، أو الكوميديا المرعبة كون الأشياء عند شاعرنا هي فوق كل توقع، وهذا ما سنتعرض إليه في قصيدة أو اللوحة ،كما أحب الراجي أن يسميها في الصفحة 30 من الديوان نقرأ اللوحة رقم 5 .
ومثل هذا التحول نجده عند الكاتب الارجنتيني «فرناندوسوزيتينو» في قصته التابع و الأصل التي سيتحول فيها خنصره الأيسر إلى فيل سيكبر حتى يحجب الشخصية، بكاملها بينما خنصر عمي موحا سيجسد انكماشه وتقلصه حتى يصير بقده و قامته إلى خنصر صغييــــر
» العنكبوت وسط خيوطه
لا يقلد ( سالفادور دالي )
ولا ( الخوان ميرو )
فقط، هذا القليل
من صوف الأم ( خدوج)
حين تخيط طاقية يدوية
لابنها الراعي
الذي يحمل الشمس
كشياه عديدة إلى الجبل .
إن ميزة شعر الراجي تكمن في تقنيته العالية، حين يريد أن يمرر الفكرة الرئيسة لا بد أن يمهد لها بصورة تقابلها إما لتشييد بناء الفكرة المراد إيصالها أو الإفصاح عنها، أو تكون صورة في تضاد معها لتعكس سخريته من المفارقات في الأشياء و إذا أشرنا إلى الصورة النسق، أو الفكرة الرئيسة، وهي في هذه القصيدة التي تعني الأم البسيطة التي استطاعت بالقليل من الصوف أن تضاهي لوحتها لوحات كبار الفنانين، و كذلك الاستهلال الساخر أو التمهيد في مطلع القصيدة أو اللوحة : « العنكبوت وسط خيوطه . لا يقلد سالفادور دالي . ولا خوان ميرو .»
وتبقى خصيصة أخرى ينماز بها الراجي مبارك، هي رمزية الأصابع ، ونحن نعرف ما أهمية الرمز في الشعر المعاصر إن لم يكن هو الوجه المقنع للصورة الشعرية نفسها 2 ، هو ما سنستشفه في هذه الورقة و أخص برمزية الأصابع( الخنصر) هذا الإصبع الذي كان رمزا للمحبة و الحب في الحضارات الفرعونية، التي كان لها قصب السبق ، في ارتداء الخاتم كعربون محبة للمحب، حين يتوج خنصر حبيبته بخاتم من ذهب أو فضة و هي تبادله بدورها هذا الفعل ،لأن في معتقد أهل هذه الحضارة أن الخنصر قنطرة صغيرة لضخ دماء المحبة إلى القلب مباشرة.
بينما نجد في شعر مبارك الراجي، خلخلة هذا الرمز من تبوثيته، حينما يعلن أنه ضد (اليابسة) أو بهاء النسيان المتعارف عليه، و السائد بين الناس في رمزية الأشياء، فيتحول هذا (الخنصر) من رمزيته الحقيقية إلى رمز للحزن و المأساة كما في قصيدة (حرب) التي تسرد بالصورة حياة الجندي (العم موحا) حيث (تتحول) قامته البطولية و شجاعته و عظمته إلى عزلة من لحم، أقل بقليل، كما جاء في صيغة تضعيف الياء في كلمة صغييـــر في حجم (الخنصر) إن هذه التراجيدية الشعرية التي تصور لنا حياة الجندي العم موحا العائد بخسارة فقدانه لأصابعه التسعة و لم يبق منه، أو منها إلا هذا الخنصر الذي سيختزل حياة العم موحا بكامله إلى خنصر صغير هذه الصورة المأساوية ستماثلها صورة أخرى في رمزية الخنصر كذلك .
في الصفحة 20 من الديوان نجد الشاعر يسمي مقطعا أو لوحة، إو صورة شعرية (للخنصر)
ثمة رغبات
كانت للخنصر الصغير في منتصف الليل
عادة ماكان أن يحب
أن يتثاءب ظله في باحة الدار
في منتصف الليل عادة ما كان يرغب أن يلاعب
ظفره كساحر صغير بقبعة
عادة ما كان يرغب الخنصر دائما
أن يتسلل الليل إلى امرأة
يحب الخنصر خنصرها
من هنا تبرز مقدرة مبارك الراجي الشعرية في تحويل الرمز، كما تبوثيته المتعارف عليها إلى صور مقنعة، و مضافة إلى صوره الشعرية الأخرى، هذه المقدرة هي ماجعلتنا ننعته بالشاعر الطافح بالصور .
فهو ككل فنان يخلق من التوافق النفسي بينه و بين العالم الخارجي عن طريق ذلك التوقيع الموسيقي الذي يعد أساسا في كل عمل فني.
بناءا على المومأ إليه أعلاه، نجد رمز الصورة الشعرية مقنعة ، كما ندرك كذلك أن الرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعرية التي يعانيها الشاعر ، هي التي تمنح للاشياء مغزاها الخاص. وليس هناك شيء ما هو في ذاته أهم من أي شيء أخر إلا بالنسبة للنفس في ثورة التجربة فعندئذ تتفاوت أهمية الأشياء و قيمتها، وعند استخدام اللغة الشعرية استخداما رمزيا لا تكون هناك كلمة هي أصلح من غيرها لتكون رمزا، والهول في ذلك استكشاف الشاعر للعلاقة الحية التي تربط الشيء بغيره من الآشياء.
و من هنا تبرز أمام الشاعر امكانية عظيمة للدلالة ، هي أنه من حقه دائما أن يستخدم أي موضوع آو أي موقف أو حادثة استخداما رمزيا.
احالات :
*من ديوان ضد اليابسة أو بهاء النسيان الحائز على جائزة عبد الوهاب البياتي الشعرية1998
1
قصة الأصل و التابع لفرناندو سوزيتينو. من مختارات من القصة الغرائبية المكتوبة بالإسبانية منشورات طوى للنشر و الاعلام .ص 85
2
الشعر العربي المعاصر . قضاياه و ظواهره الفنية المعنوية للدكتور عز الدين الاسماعيلي ص 95، منشورات دار العودة بيروت ط. 3.