جمـاليــات القــص
فــي
مجمـوعـة " قُـقْـنُــس"
محمد اكويندي
إضــــاءة :
منذ صدور النظر في الوجه العزيز (1983) لم تحدث أية ضجة، كما أحدثتها هذه المجموعة، في تاريخ كتابة القصة بالمغرب، و صاحبها، يراكم، و يوسع، و يضيف إلى تجربته، و إلى هذا الجنس الزئبقي، فإذا كانت هذه الإضافات، بطيئة و قليلة و شحيحة، مقارنة مع عمر الكتابة الذي سلخه أحمد بوزفور في كتابة القصة، فإن حصيلة الكتابة القصصية لديه لا تتعدى أربعة مجاميع قصصية، كالتالي : " النظر في الوجه العزيز، الغابر الظاهر، صياد النعام، قُقْنُسْ."
و من هنا نستنتج أن بوزفور، ينتج ( النوعي) لا، الكمي، و كذلك هوسه بكتابة المغاير والمختلف.
قــــراءة :
تسعى قراءتنا هذه إلى إبراز جماليات الكتابة القصصية، في مجموعة ققنس، و كذلك إبراز السمات على نحو مكثف، و الموضوعات أو " الثيمات" التي اشتغل عليها بوزفور في مجموعته الأخيرة هذه، فخلصنا إلى ثنائيات، و قبل الإفصاح عن هذا كله، يعني لنا هذا أنه يؤسس سياقا خاصا، أي ذائقة متفردة، عن سابقتها، لأنها جعلت من ( الرؤيا) سياقها الأدبي – الجمالي – هي الموقف، أو النص غير المكتوب الذي تطرحه كلمات النص و صوره، و غالبا ما يكون متجاوزا للواقع، محاكي لما هو مختزن في خيال الكاتب من آمال و طموحات، و أطروحات وجودية مقلقة، مما يجعلها بحاجة إلى موهبة خاصة من مزيج ثقافة موسوعية بالغة الخصوبة، و معاناة صادقة حد الاستشهاد، و النظر إليها بعيون ثاقبة، و من ثمة عكسها في مرآة النص، كما تكشف قراءتنا هذه عن الإنزياح الإبداعي في بنية النصوص التي تتأسس على قاعدة التشظي، و تداخل الأجناس، الشعري/ النثري، و تتشاكل بنيتها بين المتن و الهامش.. ثم مبدأ التذويت، و الأسطرة و التحديث، العجيب و الغريب، الرؤية الكابوسية، وتعتيم المكان و محو الزمن، و استثمار الفضاء النصي، المونولوج الباطني، الشكلية و التجريبية، شعرية السرد، (الذي يتولد معه بناء موسيقى) كما يَكْمُنُ نجاح نصوص " قُقْنُسْ" في خلق بُعْدٍ دلالي آخر وراء المتعة العقلية و الوجدانية القارة في النصوص المتسربة إلى القارئ... طبعا- القارئ أنواع، و مراتب، و مستويات، من هنا أحدِّد موقعي كمتلقٍ ذواقة، و قارئ مُتْعِوِي، فلا أدعي أكثر من هذا الذي، مكنني من إبراز السمات التالية على نحو مكثف، مما يعطي لهذه المجموعة تميزها كتجربة جديدة في كتابات بوزفور، و التجريب، ليس كما يتوهم الكثيرون، دائما عندهم مقرون بالجيل، أو السِّن، بدل الاجتهاد، و المثابرة، و التحديث و هوس البحث المضني، و شحذ أدوات الاشتغال، والتوسيع و الإضافات القيمية إلى هذا الجنس المسمى – قصة – و الحفر في بئره العميقة الغور، ومواكبته محليا، و عربيا، و عالميا، من هنا تَكْمُنُ صعوبة الإمساك به، و نعته بالزئبقي، والمشاكس...إلخ.
و هذا ما يمنحه تفوقا على النقد المتقاعس و الخامل، و المكتفي بثنائيات الشكل و المضمون (الطرح الكلاسيكي)، الذي عفا عنه الزمن.
تعبيــر الثنائـــيات :
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول، بأن " الموضوعات" المشتغل عليها داخل النصوص، كما نوضح، تعطي لهذه المجموعة ذاك الانسجام الموحد في عضويتها، (كمجموعة) منسجمة، و موحدة في إطارها العام : كالطفولة و الشيخوخة، و الموت و الحياة، و هذا ما يدفعنا إلى إبراز أكثر، لثنائيات أخرى لهذه الغاية و هي :
الحلم - الماء.
الطفولة - الشيخوخة.
المتن - الهامش ( أو الحواشي).
الموت - الحياة.
النثر - الشعر.
الرؤيا - الرؤية.
الرائي - المرئي.
الحالم - المفسر (أو المعلق).
الوجه - القناع.
الخيالي - الواقعي.
المقالة - القصة.
الشاعر - القاص.
الأمومة - الطبيعة.
تبدو هذه الثنائيات تعبيرا عن انشطار الذات، فإن (أنا) الذات الساردة، تنشطر بين الراوي والمَرْوِي، و المَرْويُّ له، و تتماهى معها، حيث يتم السرد عبر الذات، عن الذات، و عليها تنفصل الذات عن مركزها، في الوقت الذي تنهمك فيه الكاميرا (الضمير) الأول السارد بالتصوير :
" رَأَيْتُنِي أعْمَى، تَحْتَ الْمَطَرْ، كُنْتُ شخصين اثنين الرائي و المرئي.. الرائي قابع خلف المشهد يرى كل شيء ولا يُرى، و المرئي سائر أمامه يتخبط تحت المطر." ص:7، قصة " تعبيـر الرؤيا ".
ققنس، ولعبــة التخفـــي :
في قصة (ققنس) التي أعتبرها غُرَّةَ (الكتاب) نجد الحالم و مفسر لحلمه، هذا على مستوى القراءة السطحية، أما على مستوى القراءة العميقة، نقف على ذلك الوعي الشقي، لأن الوعي في حد ذاته (شقاء) ثم ننفذ بعمق، و تمعن، و بالأخص في تعليقات الحالم، الذي هو ذاته، يبدو له التفسير جليا و مكشوفا لرمزية "قُقْنُس" الذي في سطحه جرس إنذار... لشيء على غير ما يرام، و لكن ما هو هذا ( الشيء)، و الذي أفصح عنه "المعلق/ المفسر" إنه " لا مبالاة عامة " و لكي يوضح لنا أكثر حول ما يجري، أمام هذه "لا مبالاة " يتوقف عن تفسيرها، بدعوة : " أن ، فمي .. فيه .. ماء." و الوجه الآخر الأكثر عمقا في رمزية " ققنس" هو ذاك الطائر الفاضح، الصادح، بجرس الإنذار... و بهذا الصنيع أصبح عُرْضَةً للموت... لماذا ؟ لأنه يدق جرس إنذاره في الحالات الشاذة، هذه الظواهر التي تواجهها حالات " اللامبالاة " .. إن هذه " اللامبالاة" التي يعيشها العالم أمام هذه الهزات، هي الفكرة الرئيسة التي يود الكاتب التعبير عنها بمستوى عال و تقنيات سردية راقية جدا، و كما نجد في مستوى أعمق بكثير، أن قرينة "ققنس" هو المثقف في بعده الرمزي، أو الكاتب، المتخفي وراء هذا الطائر، القناع، الذي أسقط عليه الكاتب حالته و كذلك حالة المثقف، أو كل من يحمل في ذاته ضمير حي، يرن كالجرس كلما أمْلَى عليه الواجب ذلك... و أمام هذه اللا مبالاة، نقف على :
تفسير التفسير :
(ألف ... باء ... تاء ... أُكْتُبْ."
لن تَكْتُبْ إلا الأرشيف."
ألف ... باء ... تاء ... اِقْرَأ."
لن تَقْرَأْ إلا نفسك."
لكن، من أَنْتَ ؟ "
أنا ... قال، و أمسك).
يبقى عدم الإفصاح عن الهوية، سؤالا معلقا، حتى نعود إلى قراءة القصة من جديد لنجد جوابا، و تفسيرا، لإمساك – السارد – الإفصاح عن نفسه.
" ققنس ... ققنس ... ققنس.
تلفون ؟ الباب ؟ كلا، إنه جرس إنذار، يغمرني إحساس بالخطر الوشيك : خطر هائل و عام، يشبه الزلزال، أو الطوفان أو الماء أو الحرب العالمية أو قيام الساعة...
و لكن إحساسي غريب و متوحد وسط حالة " لا مبالاة عامة " من حولي كأنما يدق الجرس لي وحدي، كأنما يدق تحت الماء، الجرس موجود وحي، و أنا وسط الحياة، و السيل بلغ التراقي.
الماء ... في ...فمي.".
تعودنا في كل الحوارات، أن المحاوَر، إذا امتنع عن جوابا لسؤال ما، يرد للمُحَاوِرْ بلباقة : الماء ... في ... فمي. و هذا ما يقودنا إلى رمزية الماء في قصة " ققنس" التي أخذت بعدا آخر، إنها رمزية القوة المتسلطة القامعة، بتكميم الأفواه، أو القتل، أو التدجين، أو الاحتواء، للضمير الحي الذي يرن مثل الجرس ... إلا أن ماء البحر غشي ققنس و رهطه بالليل في الأوكار، فلم تبق له بقية (ص20)، إنه الغمر الذي ملأ فم السارد حتى يمسك عن الإفصاح عن هويته، و إن صرح بمعناها داخل، النص : لأن الهوية تعني الإطمئنان (ص22) و هو قلق.
جماليــــة النـص :
تبقى هذه القراءة المختصرة و المختزلة في حق هذه المجموعة، مطالبة بقراءات أخرى متعددة. وحتى لا يفوتنا شيء مهم، في جماليات كتابتها، و الاحتفاء بشكل النص، و طريقة أدائه بمعزل عن مضمونه و دلالاته و رسالته، فهي التعامل مع النص جراء ذلك بحقل مفتوح، لا يرتهن لأي قانون، فهو يخلق قانونه الخاص، و لا يحيل إلا لذاته، و كذلك، استثمارها الفضاء النصي، و الحيز الذي تشغله الكتابة ذاتها، أي جغرافيا الكتابة على الورق، قصة "غيابات القلب"، و "ققنس"، و تقنية الزمن المستعاد، المقترن بالذاكرة كما يتشكل من قضايا و أفكار، في مناجاة الطفولة الهاربة كزمن منفلت. أو هارب إلى مجرة بعيدة.
إذا كان الماء قد غمر هذه المجموعة، فإنه ذاك التثمين المادي الجاعل من الماء حليبا لا ينفد، حليب الطبيعة – الأم، التثمين الأوحد الذي يَسِمَ الماء بسِمَةٍ أنثوية عميقة، ففي حياة كل إنسان، أو على الأقل في الحياة التي يحلم بها كل إنسان تظهر المرأة الثانية :
العاشقة أو الزوجة *المرأة الثانية تسقط أيضا على الطبيعة إلى جانب الأم).
" في غموض كثيف حين أتصور أمي و هي تتزين و تبكي في نفس الوقت، أرفع عيني الطفلتين إليها فأراها تتكحل أمام المرآة المكسرة، و أرى الدمع الأسود. ينساب على خديها الجميلين ... و تلقمني ثديها الأبيض و هي تطل علي بوجهها الجميل الباكي فأغمض عيني و قد انْحَفِِرْ فيهما إلى الأبد. (ص32) قصة غيابات).
* غ. باشلار.
الماء و الأحلام.