فهذا الذي أصر على تعلم العربية، و كان قبل ذلك قد تشرب النمط الحياتي العربي منذ الطفولة، لم يكن هنالك أحسن منه ليُكلف بمهمة تأطير الواقع الثقافي في البلدان العربية في تلك الفترة، و ذلك حتى يتيسر إدماجها في المنظومة الفكرية الميسرة لتكريس استعمارها و من ثم ابتلاعها و خيراتها كلية...
و يستمر المقال المحلل لما ورد في كتاب ذلك المستعرب القائم بالمهمة دينس جونسون ديفز:
"... ومن ذلك على سبيل المثال حياته في القاهرة إبّان المرحلة الاستعمارية، وانخراطه في حياتها الثقافية وبداية مشروعه الترجميّ لكبار كتّاب القصّة والرواية والمسرح آنذاك..."(5).
لقد كانت تلك المرحلة الاستعمارية... فترة حضور المستعمر شخصيا بعسكره و سياسييه و منظريه و فكره وثقافته الغالبين المسيطرين...و هي المرحلة التي استغلها هو المستعمر خير استغلال من أجل تهيئة الأجواء للتحول الاجتماعي الفكري الثقافي الضروري قبل الاضطرار إلى الانسحاب...
إذ هو كان و لابد و يدرك أنه المنسحب يوما ما لوجود معارضين للاحتلال و مناضلين من أجل الاستقلال، ثم هو الاحتلال العسكري مكلف و مرهق مجهد، لكن ذلك الاحتلال الفكري بخس التكاليف، و مستمر متواتر الوجود حتى بعد انسحاب العسكر... إذ يكفي من أجل التوصل إليه بناء فكر تلامذة نجباء مطيعين مستوعبين للدرس و للتعاليم، و لابد أن يكونوا الطامعين في الحظوة عنده ـ هو الغالب ـ يمنون بها أنفسهم فلا يشقون عصا الطاعة، و لا يحيدون عن المسار رسم لهم و لو بقدر يسير..
ثم إن هذا العقل المدبر لم يكتف به وحده هو نجيب محفوظ، بل كان معه الكثيرون ممن كان يرى فيهم الرغبة في نيل تلك الحظوة حتى مع ترك الهوية...تلك التي لربما كانت قد انمحت أصلا بفعل تثاقف أهوج مع المستعمر و مع تراكماته المعرفية، و التي كان هو ذلك المستعمر لا يمتحها إلا من عمقه الغربي و من كيانه و من خصوصياته:
"... وقارئ هذه الذكريات لا بدّ له أن يلاحظ أن مسيرة دنيس جونسون ديفز الترجمية، رافقت مسيرة الأدب العربي الحديث والمعاصر، فهو منذ أربعينات القرن العشرين مقيم في الشرق الأوسط وعلى تماس مع مثقفيه الأعلام، حيث يفرد مساحة مناسبة لكلّ واحد منهم بكثير من الودّ والموضوعية، فبالإضافة إلى من ذكرناهم نجده يقف عند كلّ من: نجيب، لويس عوض، يحيى حقّي، يوسف إدريس، الطيّب صالح، إدوار الخرّاط وغيرهم..."(6).
فها هو يُرى في القاهرة و هو لا يؤطر نجيب محفوظ فحسب...أي واحدا فقط...لكنه يواكب التكوين الفكري الأدبي لمجموعة من هؤلاء "الكتّاب" المستعدين للاستلاب، و الراغبين في الشهرة كيفما كان و كيفما اتفق:
"...حيث يتابع القارئ ذكريات المؤلّف في تلك المرحلة المهمّة من نهوض الأدب العربي الحديث، ويطلعه على كثير من الجوانب الشخصية لهؤلاء الكتّاب بدءاً من محمود تيمور الذي ترجم له كتاباً يضمّ مجموعة من قصصه بعنوان «أقاصيص من الحياة المصرية».
حيث يذكر المؤلّف أنه كان اعتاد لقاء تيمور بصورة منتظمة في مقهى الجمّال، أو في دعوات الغداء التي كان ينظّمها للكتّاب الناشئين الذين كان يرعاهم، وبذلك فإنه فتح له الطريق للتعرّف على عدد من هؤلاء الكتّاب، ومما يذكره في هذا الصدد أن محمود تيمور كان كريماً في رعايته للكتاب الشبّان، بما في ذلك دفع تكاليف طباعة الكتاب لدينيس، بالرغم من أنه لم يكن هناك اتّفاق بينهما حول ذلك..."(7).
و كما يبدو جليا في المقال فقد كان يساعده في ذلك كاتب مصري تشرب نفس التأثير الغربي، و نُسج فكره على نفس النول الذي يباركه ذلك المستعرب، و يعمل من أجل ترسيخ العمل به و توسله، إنه الأديب محمود تيمور...
ثم ها هو آخر من تلك الفئة المُؤطَّرة رضيت عنه حتى الصهيونية ممثلة في شخص الإسرائيلي الصهيوني المشهور "أبا إيبان"، إذ كافأه حتى قبل أن يفعل دنيس جونسون ديفز بترجمته لمؤلفه "يوميات نائب في الأرياف":
"...أما توفيق الحكيم، فكان يجلس معه صباحاً خارج مقهى «ريتز»، وكان قد قرأ كتابه «يوميات نائب في الأرياف» وساورته الرغبة في ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية، غير أنه فوجئ بأن الكتاب ترجم من قبل «أبا إيبان» الذي سيصبح وزير خارجية «إسرائيل» لاحقاً..."(8).
ثم إنه هذا المكلف بمهمة لم يقنع بالعمل الدءوب من أجل استكمال رسالته في القاهرة، و إنما تجاوزها إلى بلدان عربية أخرى كالعراق مثلا، و ذلك من أجل أن "يصوب" مسار مثقفيها و "يسدد"خطاهم حتى تكون الوجهة المبتغاة التوصل إليها واحدة في جميع الدول العربية:
"...لينتقل بعد ذلك إلى العراق في عمل لدى إحدى الشركات، وسيمضي هناك وقتاً لا بأس به مع جبرا إبراهيم جبرا و بلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب ولميعة عباس عمارة، ومن خلال لقاءاته بجبرا في لندن سيتعرف إلى توفيق صايغ الذي كان يعمل آنذاك محاضراً في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية..."(9).
و لكي يحسن ذلك المستعرب القيام بمهامه كان عليه ـ و لابد ـ أن يستعين بالمجلات الأدبية، تلك التي تهب للأديب الإمعة فرصة للانتشار، و يمكن أن يقايضها حتى ببيع هويته، و خاصة إذا كانت المهلهلة المتأرجحة أصلا تلك الهوية:
"...وكان المؤلّف إبان إقامته في لندن قد أصدر مجلة أدبية سمّاها «أصوات» صدر منها اثنا عشر عدداً، ساهم الكثير من الكتاب والشعراء بها، ومنهم توفيق صايغ، و السيّاب وغسّان كنفاني وغيرهم، وفي معرض حديثه سيتعرض إلى قضية مجلة «حوار» التي أثيرت عنها أقاويل شتّى لجهة تمويلها.
حيث يذكر المؤلّف أن الأميركي "جون هانت" مندوب منظمة «مؤتمر الحرية للثقافة زاره في أوائل الستينات، وأبلغه انه يفكّر في إصدار مجلة ثقافية باللغة العربية، وإسناد رئاسة تحريرها إلى يوسف الخال صاحب مجلة «شعر» في بيروت، إلاّ أن المؤلّف سيقترح عليه توفيق صايغ.
و في هذا الصدد يقول: كنت اعرف أن توفيق إنسان صعب المراس، وأعلم أنه لن يوافق على أي شيء إلاّ على الحرية الكاملة في كلّ ما يتعلّق بالتحرير». وصدرت هذه المجلة بالفعل ولقيت قبولاً حسناً، إذ تضمنت أعدادها الأولى رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيّب صالح بكاملها، غير أن الكثيرين في العالم العربي كما يذكر المؤلّف لم يكونوا سعداء حيال راعيها الرسمي، الأمر الذي منعه وجبرا من الكتابة فيها.
و عندما سألهما توفيق عن السبب أخبراه بأن الشكوك تساورهما بشأن الراعي، و أنهما ليسا في وضع يخاطر معه بالكتابة لمجلة ينظر إليها الكثيرون بعين الشكّ. ولم تنقض أشهر على هذا الحديث، حتى انكشف أمر تمويل منظمة «مؤتمر الحرية الثقافية» التي كانت ترعى مجلة «حوار» من قبل المخابرات المركزية الأميركية، وهكذا فإن جام الغضب سوف يندفع باتجاه توفيق صايغ واتهامه بأنه جاسوس أميركيّ...."(10).
فالمقال من ذات نفسه يكشف عن هوية الممول، تلك التي أوردها كاتب المقال ـ عزت عمر ـ بعفوية و سذاجة دون أن تثير في نفسه شيء ضد من تصدى لمدحه و إكباره ـ و سيأتي ذكر ذلك ـ هو ذلك "الخادم المتجرد" من أجل الأدب العربي دينس جونسون ديفز!!!
فدنيس جونسون يوافق زميله في التخطيط الأميركي جون هانت مندوب منظمة "مؤتمر الحرية للثقافة "على إصداره المجلة الممولة من طرف المخابرات الأمريكية، بل و يقترح لها رئيس تحرير من تلامذته و خلصه الأوفياء...كل هذا و هو يكتم عنهم مصدر التمويل!تواطؤ بغيض و يعكس الترتيب المسبق للخطة المعدة من أجل الإجهاز على الهوية العربية الإسلامية عن طريق الأدب و الأدباء، أولائك الذين ما أهَمِّهم إلا نشر سطورهم المفعمة بالجنس و بالتراكيب المختلة العامية على تلك المجلات هنالك في الغرب، و ذلك دونما التساؤل عن هوية تلك الجهات الداعمة لتلك المجلات...الطيب صالح نموذجا...
فهذا مقال للكاتب د.صديق أمبده بعنوان "سياحة في كتابه "ذكريات في الترجمة"ـ مترجم أعمال الطيب صالح دينس جونسون ديفز"، نشر في الموقع الإلكتروني "السوداني" بتاريخ 9 ـ 12 ـ 2007 (11)، و يدعم هذا الطرح و يساهم في التدليل عليه:
"...أما عن رواية موسم الهجرة إلى الشمال فيقول ديفز أن الطيب صالح أتاه ذات يوم وأخبره بأنه يكتب رواية جديدة. و أصبح يجد على مكتبه كل بضعة أيام جزءاً من الرواية بخط اليد.
و بعد فترة وجيزة كانت موسم الهجرة قد اكتملت، وفي نفس الوقت كانت الترجمة نفسها قد اكتملت (ص 84)(12).
يقول ديفز " كان الطيب غير متأكد من قبول القراء لبعض الفقرات ذات الإيحاءات الجنسية في الرواية "، وقد قرَّر بعد حين عدم تضمينها.
و يضيف " في وقت من الأوقات كدنا أن نضمنها في الترجمة الإنجليزية ولكننا عدَّلنا عن ذلك " ثم يضيف إضافة مذهلة فيقول " في مكان ما في أوراقي المبعثرة أنا أحتفظ بهذه الفقرات كتبت على صفحتين بخط الطيب صالح.... وفي يوم من الأيام ربما تجد هذه الصفحات طريقها إلى بيوتات المزايدة Auction ويقوم بشرائها أحد المليونيرات المولعين بالاحتفاظ بمثل هذه الغرائب بمبلغ كبير من المال" (ص 84) (13).
فها هو يلعب دور "الموجه" مرة أخرى، و يشارك الأديب الطيب صالح في النقاش و التفكر حول "الفقرات ذات الإيحاءات الجنسية"، و حتى حين لم يجرأ الأديب على تضمينها في الرواية رغم التشجيع، فإن الموجه احتفظ بها لحين إشهار و اشتهار تلميذه النجيب، و لحين تطبيع فكرة تداول الجنس في النصوص الأدبية العربية و تقبلها، تلك التي كان هو مؤسسها و مهندسها و متتبعها حتى نهاية المطاف...
و كإحاطة بكل جوانب مهمته انتقل أيضا إلى لبنان من أجل صناعة أدباء أتباع لبنانيين...بل وحتى مغاربة تواجدوا هنالك...و قد عمل على صقل جوانب هويتهم حتى ما يعود للأصل فيها إلا شذرات لا تصمد لحفيف الأيام تنصرم:
"...وإبان إقامته في بيروت سيتناول المؤلّف تجربة مجلة «شعر» التي كان يمتلكها يوسف الخال ويشير إلى أن ربطت بينهما صداقة مكّنته من التعرّف على الكثير من الكتّاب اللبنانيين، ومما يذكره في هذا الصدد عن شخصية يوسف الخال، أنه كان يستبدّ به عشق الحياة، وكانت شقّته تمتدّ أمامها حديقة صغيرة مليئة على الدوام بالكتاب اللبنانيين.
وغير اللبنانيين الذين كانوا يؤمّون بيروت حينها، وبذلك فإنه سوف يتعرّف على الكاتب المغربي محمد زفزاف، و زكريا تامر الذي على حدّ تعبيره، تبيّن أنه واحد من أفضل كتّاب القصّة القصيرة باللغة العربية، أطلقه يوسف الخال من خلال إصدار مجموعته الأولى «صهيل الجواد الأبيض»، وفيما بعد وفي لندن سيترجم له «النمور في اليوم العاشر»..."(14).يتبع