خسرنا وما ربح الحب شيئا...!؟
هايل علي المذابي
وحدك .. تسافر بلا حقيبة في زمن الحقائب المكتنزة، لا تخشى شيئاً ولم تخش شيئاً..
كلهم سافروا قاطبةً.. وما ودعوك وما عاد غير الغبار وأنت : "ألا أيهذا الغبار الذي خلفوه سلاماً..).
تفتش بذاكرتك فتجدها كلغم مزروع في أحشاء دماغك، تستشيط حذراً وترتعد فرقاً وتتصبب عرقاً وأنت تخطو بدربه حتى لا ينفجر فتتشظى، ترحاً ودموعاً وغبناً..
دلفت بلك السنوات إلى أرذل الحزن بعيداً عن الخاليات، و لعلك لم تفق من وقع الصدمة بعد، لم تنسق آخر عهدك بصورتها بمشيتها، بضحكتها، بحبة خالها في الخد كزنجي بروض تحيط به الزنابق والدوالي..
لم تنس ما قالوه حين سألت عنها بآخر مرة سألت عنها بعد أن أجزعك طول غيابها:
"ماتت"..!!
يا إله الكائنات.. أخلقت تلك لتموت..؟
ما أبأسك وما أسذجك.. أقسمت أنك لتندب على قبرها سبعاً كما الجاهلية..
وهيهات هيهات تحاول عبثاً بعد أعوامٍ خلت أن تنسى الصدمة وتفيق من غيبوبتك، وبكل سذاجة وأعصاب باردة تحاول أن تجد الشبيهة فيا لجرأتك ويالسوء طويتك..
- ليست سذاجة يا هذا .. كفى تجريحاً أرجوك..
- لم يبق هنالك ما يجرح فيك بيد أنها الحقيقة.
- أي حقيقة وأي هراءٍ تتحدث عنه..
مالا تحيط به علماً أنني حين قابلت من تسميها الشبيهة لم يجذبني منها الشكل قدر ما جذبني تناغم روحينا..
- ثم ماذا يا ناصح..؟!
- ثم ماذا .. ثم كفاك تلعب دور الأخ الأكبر معي.. ثم لماذا يشوب لهجتك المواربة والسخرية وأنت تكلمني...؟!
بيد أني حقيقة الأمر لا ألومك وأمثالك، فإني لكم أن تفقهوا عن هذه الأحاسيس والمشاعر اسمها..
تجهلون معنى أن يحب المرء ومعنى أن تغتاله يد الأيام وتخطف روحه فيلفي نفسه فجأة جسداً بلا روح..
طقطقت كحطبة بلّوطٍ في موقد فقير ليلة العيد "وأذللت دمعاً من خلائقه الكبرُ.."، لم أحتمل كلام هذا المعتوه الظان بنفسه أول من أحب وآخر من أحب، ولم ألف نفسي، إلا وأنا أدفعه من أمامي متجهاً صوب صندوقٍ خشبي عتيق شرب الدهر عليه وآكل، كان على الدولاب الخشبي في الغرفة التي تحتوينا وفي لحظٍةٍ، خاطفة نست فيها كل ما كابدته لسنوات وجاهدت أجل إخفائه والتستر عليه وأنزلته وأخرجت منه روزنامةً من الصور الفوتوغرافية وقبل أن تسقط من يدي في فضاء الغرفة وتتطاير كأوراق الخريف في كل أرجائها لكزته في صدره بها وصرخت في وجهه وعيوني قبابر حمراء بللها القطر"..
- أأنا أجهل معنى الحب..؟
من أنت .. وماذا عرفت عن الحب.. هاه.. أخبرني..
أخبرني ماذا عرفت..؟
وتواريت في سراديب الآمي وحزني وغادرتني الغرفة وتركته مع الصور المتناثرة علها تعرفه ماذا يعني أن يحب المرء وماذا يعني أن يحول القدر دونه ومحبوبه؟ وماذا يعني أن يعيش بقية عمره بلا حب وفاءً لذكرى من أحب..؟ لا أملك إلا دمعة تترقرق في محترف الحدقي كفتاةٍ حائرةٍ تنتظر حبيباً لن يأتي بليلٍ مُذئب، وبصدري زفرة بائسة كحبيب تجلده وتكبله تقاليد القليلة وعاداتها يراقب عاجزاً موكب القافلة النائية بحبيبته، وقد عز بذلهما.
* * *
كان ترقص فَرِحةً يضج صرح قلبي وبراح عمري بطقطقة كعاب ضحكتها، وخطوات عينيها ما يزال رسمها فوق أهداب طريقي.. كل صورة كانت تحكي قصة ومأساةً لا تقوى الحروف سردها، رغم ذلك تواردت إلى ذهنه أسئلة حتمية لا مفر ولا مناص منها تزعمها:
ماذا بعد؟
وماذا جرى؟
وما النهاية؟
أصابته الدهشة بعد تأمل الصور واجتاحه الشعور بالذنب وتأنيب الضمير إزاء ما بدر منه تجاهي، وكنت أدرك جيداً أنه سيتلهف لمعرفة النهاية، فأسقطت ما سيحول دونه وسؤالي من خجلٍ وتأسف واعتذار وانتهيت إلى إجابته:
.. كنت لا أملك شروى نقير ولا حول لي ولا قوة يوم لقيتها ولم أك أملك من الدنيا سوى نبيضات قلبي التي عشقتها حد الثمالة، أسرتي تعولني مأوىً ومأكلاً ومشرباً وملبساً، وتوالت الأعوام وحبي لها تنضح به روحي ويزداد دقيقة بعد دقيقة وساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، حتى قررت أن أفاتح عائلتي في الأمر، والتي اشترطت للموافقة شرطاً ليتني مت وما قبلته، أوليتها ماتت كما جرى معك..
- أكمل "لماذا سكت؟!
- لا بأس سأكمل..
بليلةٍ من الليالي رفعت سماعة الهاتف، وطفقت أحادث أم الحبيبة، وأتفاوض معها حول مراسيم الارتباط، وكنت أجهل سبب مما طلتها لي وتهربها والتأجيل، ولم يكن لديها بتلك الليلة حيلة أو قوة حتى تتنصل من إلحاحي، فقالت مشفقةً:
"غداً سأريحك يا أبني .. لا تقلق، ما عليك سوى أن تتصل بنفس هذا الوقت"..
- وماذا حصل في الليلة التالية؟ من المؤكد أنك اتصلت .. صح؟
- نعم.. وياليتني ما فعلت؟!
- لماذا؟ ما الذي جرى؟
- لا أدري.. خسرنا وما ربح الحب شيئاً..
- كيف؟
- "كل شيء تحطم في لحظة عابرة" .. رحمك الله يا أمل..
- ثكلتني الثواكل إن كنت أفهم هذا..
- "كنت كفقير وجد جوهرة بجانب قصر الأمير، فخاف أن يأخذها خشية الأمير، وخاف أن يتركها خشية إملاقه وفقره.."
- كفاك إِلغازاً يا هذا..
- "أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين".