قتلوها.. ودُفِنَتْ تحت شجرة.. وحاولوا دفن السرّ معها.. لكن الراعي الذي اعتاد أن يجلس في ذات المكان كل يوم ليتناول فطوره، أحسّ أن شيئًا غريبًا قد غيّر من معالم المنطقة.. بقع من الدم! حجارة! آثار حَفْرٍ في الأرض.. أهذه آثار صراع كلاب؟ لا.. لا. لا يخفى عليَّ، إنها آثار أقدام للبشر. هُرعت قوات كبيرة من الشرطة ورجال الإسعاف، فأُخرجت الجثة بعد دفنها بخمسة عشرة ساعة. وخرجتِ الإشاعة في بلدة الإشاعات أن الفتاة قُتلت على خلفية ما يسمّى بشرف العائلة. جريمة زنا.. ومُسح العار من جبين العائلة.. وتناقلت نساؤها كعادتها الخبر بحماسٍ وشماتةٍ.. فلتكن عبرة لغيرها! مثلها يجب أن لا تعيش! هذه أوساخ يجب تنظيف المجتمع منها! الزانية يجب أن تُقتل.
سمعت "زينب" بالخبر وأخذتها الصاعقة واهتزّ بدنها واعتراها الخوف فتذكّرت ملامح وجهها حين قالت لها ذات مرَّة: "حين يموت الإنسان الشريف يكفيه أن تحمل روحه ملائكة الرحمة على أكفّها وتتضرع إلى ربّها أن يباركها ببركته وتطوف بها أرجاء الدنيا ليطلب ما لم ينله منها". دمعتان ساخنتان انزلقتا من عينيها الرقراقتين على خدّيها وتنهدت ثم قالت في نفسها بعد تفكير عميق: ما أعظمها من كلمات. يا إلهي إنها أشرف من جميع أبناء البلدة.. هي صديقتي وأنا أعرفها.. هي مظلومة.. ما هذا المجتمع الظالم لأهله ولنفسه! الناس فيه لا ترحم.. لماذا يعتبرون الحبّ جريمة يجب أن تعاقب عليها المرأة؟! أل يوجد للمرأة مشاعر وأحاسيس؟! لماذا خلقنا هنا ولم نخلق في مكان لا تُظلم فيه امرأة؟! لماذا ينظرون إلينا على أننا دون الرجال منزلةً وأقلهم عقلا وميراثًا؟! لماذا لا يحاسبون الرجل على عمله؟! العار كل العار لهم جميعًا.. آهٍ يا "مريم" لقد كنتِ لي الأخت والصديقة والمعلّمة ورفيقة دربي.. لقد صرتِ جرحًا في قلبي.. سأظلّ أبكي عليكِ ما حييت ولن تجفّ دموعي إلى الأبد.
كان من عادتها أن تخرج معها لممارسة رياضة المشي بعد العصر بقليل، لكنها لم تحضر عصر الجمعة. سألت عنها فلم تجدها.. اتصلت بصديقاتها. ولما لم تعثر لها على أثر رجعت إلى بيتها خائبة وقد شعرت أن الأمر جدّ جلل. فساورتها شكوك كثيرة من غير أن تعلم أن الفتاة قد اقتادها رجلان وانتبذا بها مكانًا غربيّا وقيّداها بجذع شجرة وكانت تصيح بأعلى صوتها:
"حرام عليكم! ارحموني!! لا تقتلوني!! أنا لم أرتكب جرمًا.. إني أعوذ بالرحمن منكم. إن ما تفعلوه بي ستحاسبان عليه يوم القيامة. اسقوني جرعة ماء قبل أن تقتلوني! الرحمة يا إخوتي! الرحمة يا ناس! الرحمة يا عالم!"
وقال فارس لأخيه: لا تأخذك بها الرأفة يا قاسم علينا أن نمسح العار الذي وصمتنا به هذه الفاجرة! لقد جاءت شيئًا فريًّا ولطّخت اسم العائلة. ومرّغت وجوهنا في التراب.
وليس ثمة ما يسمح لهما بنقل الجثة إلى مكان آخر.. الطريق غير آمنة ونقلها قد يثير الشكوك ويلفت الانتباه. فطفقا يخصفان عليها من أديم الأرض إلى ووري الجثمان. ومع دقات الساعة التاسعة مساءً، كان الرجلان يحتسيان القهوة في مقهى الفردوس. جلس على مقربةٍ منهما "عصمت نافع" الذي أحسّ بحاسته السادسة أنهما أقدما على فعل ما كان يُتوَقّع.. الرجلان يتصرّفان بغرابة.. نظراتهما مختلفة عن طبيعتهما.. جلوسهما يدلّ على أنهما منهمكان في التفكير بالذي فعلاه.. وصورة "مريم" التي أحبّها وطلب يدها ذات يوم ولم توافق، أقلقته كثيرًا.. لا تثريب عليها اليوم ولا بدّ أن تُمحى من الذاكرة بعد التأكّد أنها لن تزفّ إلا إلى الجبّانة.. وطار به خياله إلى تلك الساعة التي شاهدها تقف أمام "كامل أحمد" ابن الجيران وأخذا يتبادلان أطراف الحديث في هدوء وسكينة، حينها جنّ جنونه فسارع إلى التقاط صورة لهما دون أن يحسّ به أحد ودسّها مع رسالة خطيّة من تحت باب بيت أخيها "فارس".. أختكم تمارس الزنا مع حبيبها "كامل أحمد" والدلائل كثيرة.. التوقيع: "فاعل خير". تحت المراقبة المستمرة، "مريم" وقعت.. وجوارح أخويها فارس وقاسم تتحسّس تحركاتها حتى تثبت عليها تهمة الزنا. آذان صاغية.. عيون راصدة.. قلبان متربّصان.. فجموح وانقضاض. وألقي القبض عليها بعد الإصغاء لكامل حديثها مع حبيبها "كامل أحمد" عبر جهاز المحمول الذي اشتراه وقدّمه هديّةً لها في يوم عيد ميلادها..
اعتقلاهما كان متوقّعًا ولم يتأخّر.. وأوقفا على ذمّة التحقيق، وجاء اعترافهما سريعًا وقاما بتمثيل الجريمة.
نقلت الجثة إلى معهد التشريح الشرعي في يافا ووجدوا بعض الكسور في الجمجمة والقفص الصدري وآثار طعن بآلة حادة في جميع أنحاء الجسم. والأعجب من ذلك أن "مريم" ما تزال عذراء.. نعم ما تزال عذراء.
(كفر قاسم)