أنماط الكتابة القصصية عند زفزاف
مصطفى جباري
هذه المداخلة هي ملخص لنتائج العمل الذي قامت به ورشة القصة التي تؤطرها «مجموعة البحث في القصة بالمغرب» بكلية الآداب بن مسيك الدار البيضاء. إذ اشتغلت هذه الورشة طيلة أسابيع متعددة، وبجميع أعضائها طلبة وأساتذة وكتابا وباحثين على مجموعات الأستاذ محمد زفزاف القصصية؛ اشتغلوا فرادى على هذه المجموعات التي توزعوها بينهم، وسجلوا عليها ملاحظاتهم، وتناقشوا جماعيا في هذه الملاحظات، واختبروها في نصوص تمثيلية معينة. وأهم ما لاحظوه منذ البداية تقريبا هو سعة العالم القصصي لزفزاف وتنوع وتشابك وتعقد القضايا والموضوعات التي يمكن أن يثيرها. ولذلك اختاروا لكي يكون اشتغالهم دقيقا أن يركزوا على موضوعين أساسيين هما: السارد، واللغة القصصية.
وفي ما يلي نتائج هذا الاشتغال:
1 ـ محمد زفزاف ليس روائيا فقط، إنه شاعر وناقد ومترجم... وهو أيضا قاص، بل هو في نظرنا قاص أساسا.
2 ـ كتابة محمد زفزاف معروفة ومصنفة ومنمطة ككتابة واقعية. وإذا كانت الواقعية في أوسع معانيها تعني:
ـ قوة الحياة التي يقدمها النص بحيث تستطيع أن تستحوذ على اهتمام القارئ وتدمجه في تفاصيل نسيجها المختلج الحي، بعد تخلصها من الأخلاقية والبلاغة التقليديتين، ومن العاطفة الرومانسية.
ـ وتعني في ما تعنيه بساطة البنية اللغوية بحيث تكمن جماليات النص في بنائه الأفقي الخارجي، وهو يستجيب للتحليل أكثر من التأويل، وقوته حسية جسدية أكثر مما هي فكرية أو رمزية.
ـ وتعني في ما تعنيه أن الشخصيات أقل عرضة للتطور، والتحول، وأقل تعقيدا وترددا، وأن الحوارات الخارجية أكثر من المونولجات، وأن البناء أوسع، وأبسط وأقل إحكاما، ويتعلق بعنصري الفضاء والحكاية أكثر مما يتعلق بالشخصية أو باللغة.
ـ إذا كانت الواقعية في أوسع معانيها تحيل على ذلك كله عموما، فإن زفزاف ليس واقعيا فقط.
3 ـ تقدم لنا قصص زفزاف أنماط كتابة مختلفة:
ـ ففيها النمط الواقعي حتى النخاع. وهذا النمط نفسه متنوع بين:
أ ـ نصوص بصرية خارجية فيزيائية ترتكز على الأجسام المرئية والأجساد المتحركة، وتلتقط التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل. («الجرذ والعصافير» ضمن «بائعة الورد». «السابع» ضمن «غجر في الغابة»... إلخ)
ب ـ ونصوص داخلية نفسية: (جناح 36 ضمن «بائعة الورد» و«تحول» ضمن «ملك الجن»)
ج ـ ونصوص بينية يراوح فيها المنظور بين الخارج والداخل... («اللقاء الأخير» ضمن «الشجرة المقدسة»)
ـ وفيها النمط الفكري (الوجودي أساسا) الذي يركز على شخصية محورية، وعلى تقبلها الرواقي للعالم أو تخليها عنه أو طرحها أسئلة عليه. (الديدان التي تنحني) (حوار في ليل متأخر) النتوءات ضمن (حوار في ليل متأخر)...
ـ وفيها النمط الرمزي الذي يوزع الدلالة أولا على عناصر القصة كلها شخصيات وحركات وفضاءات وكلمات، ويعمق الدلالة ثانيا بفتح منافذ في لغة النص إلى طبقات ومستويات أعمق، وترك بياضات يمارس عليها التأويل كتابته... («دراية» ضمن «الشجرة المقدسة»)
ـ وفيها النمط الترميزي الثقافي الذي يشعب في النص الإحالات الثقافية والمعرفية أو يؤطر البناء القصصي بدلالات الإحالة الثقافية، مزاوجا بين سؤال الكتابة وسؤال التاريخ، في نبرات من المحاكاة الساخرة متفاوتة بين البساطة والتعقيد. (بورخيس في الآخرة، ضمن «بائعة الورد» وجيمس جويس ضمن غجر في الغابة»)
4 ـ السارد في قصص زفزاف ليس واحدا. هناك أنواع من السراد:
ـ منها السارد التقليدي الخارجي المحايد العالم بكل شيء عن الشخصيات والأحداث والفضاءات والأزمنة والأشياء. (الطفل والكلب ضمن «حوار في ليل متأخر»، الجرذ والعصافير ضمن «بائعة الورد» الذبابة والثور، والسابع ضمن «غجر في الغابة». الكناس ضمن «العربة» الغيلم ضمن «الملاك الأبيض»، ملك الجن ضمن «ملك الجن»، اللقاء الأخير ضمن «الشجرة المقدسة»)
ـ ومنها السارد المشارك أو السارد الشخصية الذي يحكي عن نفسه أيضا وليس عن الآخرين فقط. (تحول ضمن «ملك الجن»، دراية ضمن «الشجرة المقدسة»، جناح 36 ضمن «بائعة الورد»...)
ـ ومنها السارد المتحول الذي قد يبدأ القصة في شكل مجهر يرصد ما يرى أمامه، ويلتقط تفاصيل المشهد ودقائق التفاصيل وذراتها، ثم يتحول إلى كاميرا تنتقل بين المشاهد غير مركزة على شيء معين بالذات، ثم إلى سارد متخيِّل يخلق خلف ما يرى أجسادا وقائع لا يراها... لينتهي إلى سارد مثقف قلق شكاك يتدخل في الأحداث، ويعلق عليها ناقدا أو ساخرا أو متسائلا... (رسائل أصوات أجنحة ضمن «بيوت واطئة»)
ـ ومنها السارد الموزع، المايسترو الذي يدير الحوارات بين أشخاص القصة... وللحوار في قصة زفزاف مكانة هامة تستحق الدرس المتأني المستقل، سواء من حيث بنياته أو وظائفه الدلالية والثقافية (الدرامية، والإيهام بالواقع)
5 ـ اللغة في قصص زفزاف لغة راشدة (بالمعنى القانوني للكلمة) أي أنها لغة ناضجة مكتملة واثقة من نفسها، لا تشك ولا تتردد ولا تعاني من عيوب القدامة اللغوية التي نجدها في الأصباغ البلاغية أو الدعوة الإديوليوجية أو الاستيهام العاطفي الرومانسي... إلخ. ولا من أمراض الحداثة اللغوية مثل التلعثم والنقص أو اليأس من جدوى التواصل أو اللغو التنفيسي الخالي من المعنى... إلخ
بل إنها في العمق ليست موضوعا للاشتغال الفني.
واللغة في قصص زفزاف عربية فصيحة معجما وتركيبا، ولكنها تستبطن روح العامية ومناخاتها وثقافتها الشعبية. حين تقول إحدى الشخصيات في إحدى القصص: «أنت ونوفل لستما قبيحين»، فإن القبح في الجملة لا يحمل الدلالة الفصيحة: (الدمامة) ولكنه يحمل الدلالة العامية (سوء التربية) وفي قصة السابع أمثلة قوية لهذه الظاهرة، كما في قصص كثيرة أخرى...
غير أن اللغة في قصص زفزاف ليست هي الأخرى نمطا واحدا. ذلك أنها تبدو في كثير من القصص لغة خارجية بصرية فيزيائية تتعلق بالأجسام المحسوسة. وتبدو في بعض القصص لغة فكرية وجودية تتعلق بالمعاني والأفكار. وتبدو في قصص أخرى لغة اجتماعية ناقدة ساخرة سخرية حب لا سخرية تعال، سخرية ضحك لا سخرية انتقاد أو هجاء، سخرية أشبه بالنقد الذاتي: حب مشوب بالمرارة، لكن مشوب أيضا بالرغبة أو بالأمل في الخلاص.
واللغة في قصص زفزاف ليست نمطا واحدا:
ذلك أنها تبدو في كثير من القصص لغة بسيطة واضحة تمارس سردا أفقيا، تنبثق جمالياته من التجاور في ربط الكلمة بما قبلها وما بعدها من الكلمات ربطا تعشيقيا، كما يصنع البناؤون. لكن لغة زفزاف تمارس في قصص أخرى ما يمكن تسميته (سرد التعميق) أي ذلك السرد الترميزي الذي له بعد عمودي استبدالي، وتكمن جمالياته في ربط الكلمات بمستوياتها الدلالية الأعمق، (دراية مثلا)، أو بإيحاءات من المدونات اللغوية والثقافية المحلية والكونية ... السابع وجيمس جويس...
هذا التنوع الثري الذي لاحظناه في أنماط الكتابة، وأنواع السراد، وأشكال اللغات يزداد غنى وعمقا إذا لاحظنا أنه لا يتعلق بالمراحل الزمنية لعمر الكاتب، ولا بالمجموعات القصصية، لأننا نجده بارزا في كل المراحل، وفي كل المجموعات؛ إنه يتعلق بزفزاف نفسه، زفزاف الكاتب طبعا... إنه كاتب متنوع بطبيعته... وهو مثل كل الكتاب الكبار، يستحيل حصره في نمط أو ربطه بمذهب أو تصنيفه في خانة.
على أننا ينبغي أن نضيف هنا إلى طبيعة الكاتب طبيعة الريادة والتأسيس. فالقصة القصيرة بالمغرب قبل جيل زفزاف كانت تبحث عن نفسها، وهي تتأرجح بين المنبع الغربي والرافد الشرقي. وكان على جيل زفزاف أن يمارس التأصيل والتبيئة، وأن يغرس هذا الجنس الأدبي الجديد في التربة المغربية نفسها بحيث تتغذى جذوره من النسغ الشعبي المغربي ماء وملحا وسمادا: موضوعات ولغات وأساليب وطرق حكي وعني وبناء.
لذلك تنوعت إنجازات هذا الجيل واجتهاداته، ولذلك تنوع زفزاف... هذا الواحد المتعدد فعلا.
نعتقد في الأخير أن أهم إنجازات زفزاف هو شقه لتيار «تكتيب الشفاهي» في نهر القصة المغربية، أي نقل السرد المغربي الأصيل من الحكاية الشفاهية الشعبية إلى الكتابة القصصية، ونقل السرد المغربي المكتوب من نماذجه الغربية والشرقية إلى جذور مغربية أصيلة. هذه النقلة الهامة (والمستمرة) في تاريخ القصة المغربية لم يكن ممكنا أن يقوم بها إلا رجل كزفزاف له جذور شعبية يحس بها وله عقل حديث يفكر به، تماما كبلده الذي يمتد جنوبا في عمق إفريقيا، ويمتد شمالا إلى عتبات أوروبا.
(كاتب مغربي)
عن السفير