اية ظلمة...تفوز بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي لعام 2012
للروائي محمد الغربي عمران
الخرطوم
فازت رواية(ظلمة...). بجائزة الروائي الكبير الطيب صالح للإبداع الكتابي بالمركز الأول ..والتي بلغت الأعمال المشاركة في فروع الجائزة 312 مشارك ..منها أكثر من 124 عمل روائي قدمت من 16 دولة عربية بالإضافة إلى أعمال قدمت من المانيا وموزامبيق واستراليا ودول أخرى لنيل هذه الجائزة في دورتها الـثانية..
كما جأت الروائية الجزائرية هاجر قويدري بالمركز الثاني والروائي المغربي هشام بن الشاوي
ورواية (ظلمة ...) وهي الرواية الثانية للروائي اليمني محمد الغربي عمران.. بعد روايته (مصحف أحمر) ذائعة الصيت الصادرة عن رياض الريس 2010 الطبعة الأولى و دار ميريت2012 في طبعتها الثانية.
والتي سبق وأن أثارت جدلا واسعا عند صدورها نتيجة لمنع دخولها اليمن وكذلك منعها في معرض الرياض ومعرض الكويت للكتاب ومعارض عربية أخرى.
ورواية( ظلمة...) الفائزة بجائزة الطيب صالح تعالج فترة مهمة من تاريخ مجتمع جنوب شبه الجزيرة العربية .. منصف القرن الخامس الهجري.. حيث أستدعى كاتبها التاريخ.. مركزا على الصراع الديني بين المذاهب .. ليدور صراع عنيف للسيطرة على المجتمع بين ثلاثة مذاهب إسلامية هي: المذهب الإسماعيلي وكان امتداد للدولة الفاطمية في القاهرة.. والمذهب السني الامتداد لمذهب العباسيين في بغداد.. والمذهب الثالث هو المذهب الزيدي.
وتدور أحداث الرواية في أعالي جبال السروات في اليمن وعسير وحتى الحجاز.. وهي بيئة شخصيات الرواية..حيث تدور أحداث الرواية في تلك المناطق.
حين يعيش إنسان ذلك الجزء من العالم في صراع دموي رهيب يقوده زعماء تلك المذاهب .. وهو ما يحدث اليوم .
ففي الوقت الذي كان يقود زعماء تلك المذاهب العامة من قبائل ودهماء ليوجهونهم لنهب المدن وتدميرها بفتوى فساد حكامها.. تنتشر عمليات القتل والسلب بدعوى نشر الدين الحق.. ليدخل زعيمهم معلنا نفسه أمير للمؤمنين .. ليستعد زعماء المذاهب الأخرى بتجييش القبائل لتدور الدائرة ..وهكذا دواليك ما أن يسيطر زعيم مذهب على صنعاء معلنا نفسه إماما على جنوب شبه جزيرة العرب حتى يدعو زعيم مذهب آخر أتباعه وبقية القبائل للهجوم على صنعاء مبيحا النهب والسلب مقابل ما قاموا به.
والرواية تسقط الماضي على ما نعيشه اليوم.. فلا يزال الدين وأئمته هم المتحكمين بوعي العامة من الناس.. ولذلك يعيش الوطن العربي حالة شبيهة أو مطابقة لما عايشه مجتمعنا قبل ألف عام.. مع اختلاف الأدوات.. وما نعانيه اليوم فهاهي الثورات الشبابية..وها هي التيارات المتأسلمة تقطف ثمارها دون أن يكون قد قدمت أي تضحيات.
الرواية عالجت أيضا العلقة بين أتباع الديانات الأخرى والمذاهب المخالفة للإسلام في جنوب شبه الجزيرة العربية.. مثل الوثنية واليهودية.. لينكفئ أتباع كل دين على أنفسهم .. وإن ظهر العكس من ذلك.. خوفا من التنكيل والإبادة .
وهنا يستخدم الكاتب تعدد أصوات الرواة وتوازى حكيها.. الأصوات التي تتضافر بشكل مطرد.. لتقدم لنا أحداث وتطورات العلاقات بين فئات المجتمع في قالب سلس وممتع.
هناك عدة تيمات نسج الكاتب روايته حولها.. مثل:
صراع النفس حول الإيمان والشك بمصداقية دين عن آخر.. ومذهب دون غيره من المذاهب.. ولذلك ظلت الشخصية الرئيسية للرواية (جوذر) تتأرجح بين المعتقدات اليهودية والإسلامية وظل جوذر في بحث وتساؤل مستمر عن وجود الله من عدمه..
والمحور الثاني قصة حب مضطربة وغير متوازنة بين (جوذر) الابن من زواج بين مسلم ويهودية وبين حبيبته (شوذب). ابنة المعلم الباطني صعصة الذي علمه رسم الحروف ونقش الأشكال وتلوينها.. كما لقنه الكثير مما يعتقد.
شوذب الحبيبة التي تتعرض للخطف والبيع كجارية في سوق النخاسة.. في الوقت الذي يقتل والدها المعلم من قبل رجال إمام صنعاء بتهمة ترويجه للأفكار الباطنية .. الكأس الذي تجرعه صبيه جوذر.. والذي يرمى بعد مقتل معلمه بشهور في سجن مظلم.. عبارة سرداب تحت قصر الحاكم ليقضي فيه عدة سنوات .. وحين يخرج من سجنه بعد صعود إمام جديد .. حينها لا يجد حبيبته شوذب أو أمه اليهودية.. ليبدأ بالبحث المضني بعد أن علم بأنها خُطفت وبيعت في أحد موجات إباحة صنعاء للقبائل .. لتباع كأمة ويرحل بها النخاس من صنعاء باتجاه مكة لبيعها.
والشخصية الرئيسة في الرواية هي جوذر..الذي أتقن النسخ والنقش والتلوين. وبسبب مهنته تلك تعرض للملاحقة والسجن.. ثم شخصية المعلم صعصة الذي علمه أسرار تلك المهنة التي تسببت في مقتل المعلم من قبل رجال أحد الأئمة .. ثم شخصية أم جوذر يائيل اليهودية التي دفعت ثمن مخالفة أهل ملتها حين هربت لتتزوج بشاب مسلم كان يعمل مساعدا مع أحد زعماء المذاهب.. لكنه يقتل في أحد موجات النهب والسلب لصنعاء.. ويتركها ووليدها الصغير فتعيش منبوذة من الطائفة اليهودية.. ومن أسرة زوجها.
إضافة إلى عشرات الشخصيات التي تتفاوت تأثيرها في مجريات أحداث الرواية.
يبحر الكاتب بالقارئ إلى عوالم أسطورية .. وأحداث غامضة ومواقف مبهمة في أكثر من 450 صفحة.. من خلال الراوي جوذر الذي يروي في مخطوطته كل ما عاشه وما عايشه منذ طفولته وحتى صباه وشبابه .. مسجلا في مخطوطته التي يكتشفها أحد العاملين في دار المخطوطات والكتب بصنعاء. باعتبار جوذر فنان: ناسخ كتب ونقاش زخارف ورسام أحرف.. يحكي حياة أفراد مجتمعة في ذلك الزمن الموغل بإبهامه وغموضه.. مسجلا صراعا رهيبا واقتتال متواصل على الحكم .. وما تعرض له من سجن وتشرد بسبب مهنته.. ثم رحلته للبحث عن حبيبته شوذب.. بعد خروجه من السراديب المظلمة عقب استيلاء أتباع المذهب الباطني على صنعاء( الصليحيون).. ليرحل باحثا عنها وعن أمه متنقلا مع القوافل من بلد إلى أخر حتى يصل مكة عبر جبال عسير.
لينتقل جوذر من طور إلى أخر .. راويا ما يصادفه من عقبات ومشاكل .. وخلال رحلته إلى مكة تتداخل الرؤى والأفكار بين بحثه عن حبيبته وبحثه عن يقين الله ليعود من مكة خائبا عبر تهامة إلى صنعاء تائها بين الشك واليقين.. ليكتشف غربته عما حوله وعن نفسه.. وقد تداخل الحب بالإيمان بالفناء.
الرواية تظهر لنا أسلوب حياة مجتمع جنوب الجزيرة .. مع تداخل العقائد الوثنية بالسماوية وتمازجها بالسياسة.. وشناعة الحروب المتتالية التي يقودها زعماء الدعوات المذهبية ليس حبا في الله ولكن بهدف السيطرة والاستبداد.. لتتعاقب الحروب التي يتخللها النهب والسلب والتدمير بصورة متعاقبة وكأن القاعدة هي الحروب وما عداها هو الاستثناء.
يستدعي الروائي التاريخ ليوظفه في استجلاء غوامض ما تعيشه مجتمعاتنا في الوقت الحاضر بفنية عالية متكئا عليه ليحلق بخيالة فاضحا ما يعتمل على ساحتنا العربية المعاصرة من تسلط وفساد ودكتاتورية .. حين يظل الدين أداه فاعلة لترويض وإخضاع المجتمعات واستغلالها.. ليضفي على شخصية الحاكم هالة من القداسة لأغراض سياسية.
والرواية توحي بالتمرد والثورة كقيمة إنسانية من خلال وقودها الطبقة الدنيا من المجتمع وتحالفهم مع الطبقات الواعية والمفكرة.. حيث تظهر الرواية أن العامة من الناس هم المحرك الرئيسي لصنع التاريخ ووقود الحروب والتغيير في جميع الحضارات الإنسانية المتعددة.. ومن خلال ثوراتهم يصنعون للحاكم الطريق فوق أجسادهم إلى كرسي التسلط والظلم..وسريعا ما يتناسى دورهم .. ليسومهم أصناف العذاب.. وهكذا تتعاقب أحداث التاريخ وتكاد تتطابق في دوامة لا تنتهي.