فتحي
كثيرةٌ هي المواقف التي يخشى فيها النّاس من شيءٍ ما فتصدُر منهم تصرّفات غريبة تثير الضّحك أحياناً ويستغربُ منها البعضُ أحياناً أخرى،فالخوفُ قد يقودُ للشّجاعة دونَ تفكير،وقد يودي بصاحبه للهلاك دون تقدير،وربّما أوصله لما يرد دونَ أن يتوقّع ذلك يوماً من الأيّام،وفي قصص القصّاصين والمحدّثين وفْرة من هذا النّوع الذي يختلط فيه الصدق بالأكاذيب،والحقيقيّ بخيال الروائيّين ..
وفي العامّيّة يقولون "فَجْع الدّيب ولا قَتْلُه" بمعنى إخافتُه أنجع من قتله،ولهذا المثل إسقاطات كبيرة على واقع أصحاب القلوب المُهيّأة للخوف من كلّ شيء ومن أيّ شيء،وحينَ تسأل بعضَ الشباب عن سبب هجوم الشّيب على رءوسهم ولحاهم ستجدُ من يُجيبك بأنّ سببَ ذلك "فَجْعَة" بمعنى أنّه تعرّض لخوفٍ فُجائيّ فاشتعلَ الرأسُ شيباً،رغم صعوبة التأكّد من هذا التّبرير السائد في مجتمعنا ..
أتذكّرُ بأنّ كبيراً في السنّ قال لنا ونحنُ صغار بأنّ رجلاً فوقَ شجرة رأى أسداً على الأرض يسير في خُيلاء ويزأرُ طرباً من قوّته وهيمنتِه،فراعه ذلك المشهد وكادَ قلبه أن يتوقّف خوفاً من أسدٍ لن يصلَ إليه وهو في أعلى الشّجرة،لكنّه من شدّة الفزَع قفزَ قفزةَ "سوبرمان" وحطّ على ظهر الأسد كأنّه يركب فرساً وأمسكَ بأُذُني الهزبْر لا يلوي على شيء،فما كانَ من الأسد إلا أن ماتَ من شدّة خوفِه من صنيع هذا الشُّجاع الخائف،وأتى النّاس يحاولون أن يفصلوا بين أذُني الأسد ويديْ الرّجل دونَ فائدة حتى استقرّ الحال على قطعهما وتخليص الرّجل الخائف حتّى حين ..
هيَ اللحظةُ إذن،تقفُ حاسمةً للتصرّف دون عقلٍ أو تركيز،لكنّها قدْ تصنعُ ما لا تصنعهُ شجاعة الأبطال في ساحاتِ الوغى،وربّما رأى المتابعون للفضائيات مشاهدَ من هذا النّوع نجا بها الإنسان من دهْسِ سيّارة أو حريق منزلٍ أو تربّص عدوّ دونَ أن يكون مستعدّاً أصلاً لحُسن التّصرّف في الطوارئ ..
وفي الجانب الآخر أظهرَت لنا "الكاميرا الخفيّة" الغربيّة ردود فعل متباينة ومتغايرة لأجناس وأصناف من النّاس تجاه الفزَع تجعلنا نستلقي على ظهورنا ضحكاً من مواقف ربّما لو كنّا نحنُ من تعرّض لها لكنّا أكثرُ إضحاكاً،فمنَ الرّجال من إذا خافَ صفّر وزغرَد،ومنهم من إذا فزِعَ هرولَ وجرى،وآخرون لو ارتابوا لسكنوا وجمدوا كأنّ على رءوسهم الطّير،وفي النّساء تأخذُ هستيريا الضّحك حيّزاً لا بأس به من تصرّفاتهم لو فزِعْن،ومنهنّ من تبكي،ومنهنّ من تصفعُ من بجانبها بكفّها النّاعم صفعةَ الحانقين،ولكَ أن تتخيّل الكثير في هذا الصّدد والمجال ..
أمّا أنا فلقد لبسْتُ الغُترة والعِقال ومكثتُ وقتاً أعدّلُ من وضعيتهما دونَ أن أشعرَ أنّني لبستهما قبل لبس الثّوب أصلاً،ولولا المرآة لكنتُ وصلتُ لسيّارتي وأنا بهذا الشّكل المضحك وحدثَ ما لا تُحمدُ عُقباه،كلّ هذا بسبب خوفي من أمرٍ ما،يبدو أنّ التركيزَ ساعةَ الخوف يكونُ خارج إطار المحيط بك من محسوسات،ويحصركَ تماماً في مساحة ضيّقة هي مادّة خوفك،فتتصرّف كجهازٍ إلكترونيّ تعطّلت آلةُ تشغيله وأصبحَ يدور دونَ تحكّم ..
مسكينٌ هو الإنسان،خُلِقَ ضعيفاً،وهو في ذات الوقت يزبدُ ويرعدُ عندما يشعرُ بنشوة عقله وسطوة سلطانه ووَفْرةِ ماله،ونسيَ بأنّه هو نفس الإنسان الذي يهذي بما لا يعرفُ عندما يخاف،ويبكي دون سيطرة عندما يفرح،ويرتعدُ رغماً عنه في البرد القارس ولو كان سيّدَ الرّجال،فحُقّ لمن قال:"الخوفُ قطّاع القلوب" ..
ألا تذكرونَ أصوات الجنس النّاعم عندَ مشاهدة الصراصير أو الفئران أو الحيّات ونحوها في البيوت،بالتأكيد أن لكلٍّ منكم صورة من هذه الصّور،وذلك لا يعني كونهنّ ضعاف الإرادة أو الأفئدة كما يُشاع،بل لأنّ ذلك هو ما يليق بجنسهنّ الذي أفرده الخالق عن جنس الذّكور،ولذلك يعيبُ الرّجل على الأنثى بقاءها دونَ حراكٍ أمام حشراتٍ من هذا النّوع،ويرى أنّ ذلك نقص في الأنوثة ..
أمامَ الخوف تظهرُ إبداعات لا يمكنُ أن تُعاد،وتنكشفُ مهارات لا يمكنُ أن تستنسَخ،وقد تنفجرُ أفواهٌ لم تنطق من قبل بسلسبيل كلام وعذب حروف،ومن المُعالجين الرّوحانيين من يستخدم "الفَجْعَة" دواءً للجنون أو الخرس أو الشلل،ومسلسلاتنا العربيّة مليئة بمن قام يجري من كرسيّ متحرّك بعدَ أن خاف،ومن رجَعَ للحياة بعدَ غيبوبة،حَكايا وقصص تُسلّي أكثر من أن تُصدّق ..
بقيَ أن أُذيعَ سرّاً "فأصدقائي المقرّبين جدّاً منذ سنوات طويلة ينادونني باسم غير اسمي على سبيل الدّعابة،فيقولون دوماً(فتحي راح،فتحي جاء،هذا فتحي،يا فتحي)وسبب هذا اللقب أنّني في يومٍ من أيّام الفَجْعاتِ تفوّهتُ لأحدهم بهذا الاسم دونَ أن أدري ما علاقته بالأمر أو بي،فأصبحَ لازمةً محبّبة لأصدقاء عمري" والمحيّرُ في الأمر ما سببُ كلّ هذا الاختلال في التّوازن وقتَ الخوف؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد أحمد بابا ـــ ينبع