الغُدَدالصّمّاء .. اشتغلْ وأنتَ ساكت
العملُ في صمت لا يعني أبداً أن لا تستفسر ولا تبدي اعتراضاً أو اقتراحاً،لكنّ ثقافتنا العربية المقيتة في القرن الأخير عمِلَتْ على أن يتعوّد الناس على (اشتغلْ وأنت ساكت) وكأنّهم يسهمون في حماية البيئة من ضجيج المعترضين أو من هراء المستفسرين والمتسائلين،وربّما قد نجحوا أن يجعلوا العمل بصوت غايةً في التهوّر ..
كثيرةٌ هي الشّركات التي تزيّن إعلاناتها التجاريّة عن السيارات الفارهة بأنّ صوت المحرّك لا يكادُ يُسمَع،وعن المكيّفات بأنّ لا صوتَ وأنت نائم،حتّى شاعَ لدى دولنا الخليجيّة الحارّة استخدام مكيّفات (سبيلت) و (المركزيّة) حيث النتائج في جهة وعمليات التبريد المصدرة للأصوات في جهة،فالمكيّفات والسيّارات تعمل وهي ساكتة ..
لكنّ الغُدد الصّمّاء في جسم الإنسان أكثرُ براعة في هذا النّسق وتطبيق نظريّة العمل في صمتٍ،فهي تفرز تلك المواد الكيميائيّة الهرمونية وتقذف بها في الدّم دون وجود قنوات توصل هذه المواد بالمعيار المادّي المعروف،متّخذة بذلك أقصى درجات الاحتياط في الصّمت وعدم الكلام بأن لا تسمع أصلاً توجيهاً من جهة أخرى ..
ارتبط لدى الكثير منّا بأنّ (الأصمّ) الذي لا يسمع في الغالب لا يتكلّم،ورغم وجود كثير ممّن فقدوا السّمع أصلاً منذ ولادتهم تعلّموا حروفاً وكلمات نطقوا بها بعد عناء تعليم،إلا أنهم في خير حاجةٍ لذلك فهم يعملون في صمت،فلا تأثير لعوامل خارجيّة من أوامر أو انتقاد أو حتّى إطراء تدعوهم ليتكلّموا،فهم فئة من أكثر الناس إنتاجاً ..
في حياتنا الكثير من الضّجيج دون فائدة،والكثير من الكلام دون نتيجة،وفيها أيضاً صمتٌ قاهر مكروه غالبٌ عن أمور تستدعي ولو كلمة من حرفين،كما أنّ حياتنا العمليّة تحمل كمّاً هائلاً من مطالبة كلّ من يعملُ معنا خاصّة إذا كنّا نملك حقّ توجيههم أو الإشراف عليهم أن لا يتكلّموا بقاعدة مدويّة (اعمل وأنت ساكت) ..
يا لَجمالِ (الغُدد الصّماء) في المفهوم الطبّي فهي تستقبل الإشارات بإنتاج الهرمونات أو العمل المطلوب منها فتقوم بإنتاجها وإيصالها حالاً دون أيّة ردّة فعل عربيّة،لماذا،وكيف؟وأين؟وكم؟ فهي مدرّبة وعالمةٌ بما تفعل وهي ساكتة صمّاء،تقومُ بما عليها غيرَ آبهةً باعتراض (بينكرياس) ولا بخطاب تقدّمه (المرارة) ولا بطلب تأجيل ترسله (المعدة) مستمرّة في إنتاجها حتّى تموتَ أو تتقاعد ..
الكلامُ في وسط الطريق المؤدّي للنتيجة نوعٌ من المخاطرة نحو نتيجة لا تُرضي،ونحنُ دوماً نتكلّم بل نصدر تقريراً وقد نحاول التنبّؤ والفلسفة والتّقييم والعمل ما زال في بدايته وربّما لم يبدأ بعد،عالمنا السياسيّ والاجتماعي والثقافيّ اليوم لا يعرف الصّمتَ أبداً كما أنّه حينَ يتكلّم لا يعرف الكلام،وحُقّ للمثل الخليجيّ أن يصدُقَ عليه وعلى أفعاله وأعمال شخصيّاته (يا زِينَكْ وانتَ ساكِتْ) ..
لدينَا في مجتمعاتنا (غُدَد) كثيرة بل ومليئة بقدرة هائلة على إنتاج (هرمونات) ذات فعاليّة جبّارة في كل اتّجاهات هذه الحياة،ولكنّها ليست (صمّاء) أبداً،لا تعرف أن تسكت ولا أن لا تسمع،بل تُعطّلُ نفسها بنفسها،وتعمل ذاتيّاً على هضم حقّها في الجود بكثرة الكلام،حتّى أنّها تتعرّض للتّضخّم القاتل بسماعها لكلّ مُرجَف وكذّاب ..
يظهرُ جليّاً هنا بأنّ عدم وجود (قنوات) هو سبب (الصمم) الذي كان سمةَ الغُدد التي عليها يرتكزُ كون الجسم الإنسانيّ جسماً يعملُ بشكل جيّد،لذلك فوجود قنوات وتواصلات واتصالات وتأثيرات من جهات خارجيّة أو حتّى داخليّة لا فائدة منه في وقتٍ من الأوقات وفي وضع من الأوضاع،بل هو أمّ المشكلات أحياناً،يمنع من استكمال العمل المراد ومن النتيجة المقصودة لتُرزَق البشريّة بثقافة مشوّهة تشويهاً خُلقيَاً وعلميّاً ..
قال أحدَهُم (الصّمتُ في حرمِ الجمالِ جمالُ) ولكنّنا ونحن القائلون لهكذا عبارات لا نعرفُ الصّمت ولا السكوت،بل كثيرٌ منّا لا يعرف الفرق بينهما،حتّى أنّ الوصاية المفروضة على المجتمعات التي قامت وثارتْ لم تمنعهم من الكلام فوجدوا في شبكات التواصل الاجتماعي كثيراً من الفُسحة لينثروا غُدَدهم ذخيرة حيّة إلى غير وجهة ..
بإمكان أيٍّ منكم أن يدخل لأي مقرّ عمل في وطننا العربي،سيجدُ كثيراً من الضّجيج والكلام بين زملاء العمل،وبين المراجعين وهم،وبين متصلين ومن يمسكون بزمام الردّ،ومع ذلك لن يخرج من ذلك المقرّ إلا وهو يتأفّف من قلّة العمل وإشغال الموظفين والموظفات لأنفسهم بكثير من الكلام دون طائل،بينما من يدخل مجمّعاً يضمّ آلاف العالملين في مقرّ (Ficebook) أو مقرّ (Google) سيجدُ غدداً صمّاء بكل ما تحمل هذه الكلمة من مقاصد بعيدة ومفيدة ..