الحالمون بالمُستبد العادل، في ثقافتنا، يفتقرون إلى البصيرة والإرادة والشخصية، وينفرون أيضاً ممن يسعى لاضاءة عقولهم وقلوبهم بمصابيح الحرية.
بعبارة أخرى، الوجدان العربي مُتشبع ـ كما أسلفت ـ بفهم مُتحجر ومبتذل للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله، وإنما من المستبد العادل! الحالمون بالمستبد العادل/البطل المُخلص في أوطاننا لا يدخلون، بل لا يجرؤن حتى على مجرد التفكير في دخول ملكوت الحرية، دون اذن! البطل العربي بائع لصكوك الحرية!
هيجل ـ وكما هو واضح ـ يُرجع خفوت، أو انطفاء شمس الوعي بالحرية، داخل عقول وقلوب أبناء الشرق، ومنهم أبناء مجتمعاتنا العربية، إلى عدم وصول الروح إلى مرحلة النمو الناضج، ومن ثم عدم استقلالها، نظراً لإشراق سناءها الرائع المُطلق في آسيا، حيث بدأ تاريخ العالم، وغروبها في أوروبا، حيث ينتهي التاريخ.
أراني قانعاً بأهمية تثمين التفسير الهيجلي، للتشوه الحاصل في فهم مجتمعاتنا العربية للبطولة. ولسوف أبدأ رحلتي بعرضٍ موجز لبعض ملامح فكرنا الأنسني.
نحو تفسير أنسني لتشوه الفهم العربي:
ما أعنيه بـ "الأنسنية" هو أن يُحقق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص التالية(6): 1ـ معيار التقويم هو الإنسان. 2ـ الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. 3ـ تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. 4ـ القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. 4ـ تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وطبقاً للمعيار المأخوذ به فى الفكر الأنسني، للتمييز بين الذات والآخر، يُعد الإنسان، أى إنسان، أنسنياً (ذاتاً أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافيا(7). فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه.
المقصود بـ"الثقافة" هنا، وعلى خلاف الشائع، التعريف الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة(8)، فلكل البشر، على تفاوت مراتبهم، ثقافاتهم الخاصة.
باستخدام المعيار الأنسني نفسه، المُشار إليه تواً،، يُعد آخراً كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهداً في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافياً بالأنسنية كفلسفة حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان الذات البائسة من جني ثمار الأخذ بها! ذلك هو الآخر(9)!
تطور التاريخ الإنساني ـ وبحسب ما يرويه لنا المؤرخون ـ لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعاً ثقافياً، استناداً للتعريف الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فالآخر في فكرنا لا يرمي فقط لاحكام السيطرة الاقتصادية على الذات المغتربة، وإنما يتخطى ذلك ـ بلاإنسانية ـ إلى الحيلولة دون تمتع هذه الذات بحقها الطبيعي فى نقد وتطوير طريقة حياتها.
وأقول صراعاً معقداً، لتعدد جبهاته وتداخلها! فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المُدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كفلسفة حياة. إنه صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي للنيل من خصوصيتها الثقافية وتسعى لهدمها.
قارئي الكريم، ثمة إمكانية واضحة للحديث عن تناغم يُعتد به بين القول الأنسني بوجود صراع ثقافي مُعقد ـ أطرافه الذات الأنسنية، والذات المغتربة، والآخر ـ، وبين تشوه الفهم العربي للبطولة! وذلك على غرار الامكانية المُشار إليها في الجزئية السابقة، أعني إمكانية الحديث عن تناغم بين الوصف الهيجلي للمجتمعات الشرقية (ومنها مجتمعاتنا العربية)، بأنها لا تعرف من الحرية إلا حرية الحاكم، أي حرية القوى الحاكمة، وبين قناعة مجتمعاتنا، انه انما ينهض بالأمة مستبد عادل، يتمتع وحده بالحرية الذاتية، بينما يُسمح لبقية أفراد المجتمع بالحرية الموضوعية.
اتهامي للاغتراب الثقافي للذات العربية، والآخرية (خاصة العربية/المحلية)، بمسئوليتهما عن تشويه الفهم العربي للبطولة، لا يحتاج لاثبات، غير أني سأثبته!
الطرح الهيجلي، ورغم اقراري السالف بريادته وأهميته، مُخيف في تعاليه، ولا يخلو من عنصرية غربية ـ مُزمنة ولاأنسنية ـ! أليس يُرجع خفوت، أو انطفاء شمس الوعي بالحرية، داخل عقول وقلوب أبناء المجتمعات الشرقية، ومنهم أبناء مجتمعاتنا العربية الكسيرة، إلى عدم وصول الروح إلى مرحلة النمو الناضج، ومن ثم عدم استقلالها، نظراً لإشراق سناءها الرائع المُطلق في آسيا، حيث بدأ تاريخ العالم، وغروبها في أوروبا، حيث ينتهي التاريخ!! الطرح الهيجلي لا يخلو من غرض!
خفوت، أو انطفاء شمس الوعي بالحرية، داخل عقول وقلوب أبناء مجتمعاتنا العربية المُتخلفة ـ والذي تعتبره رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني اغتراباً ثقافياً ـ، ليس قدراً محتوماً، كما يُلمح هيجل في طرحه الرائد والمهم، وإنما هو صناعة الآخر الآثم (أعني الآخر العربي/المحلي، ومن ورائه الآخر الإقليمي والآخر العالمي).
منذ رحيل الاستعمار الأوروبي عن أرضنا الطيبة، يعمل الآخر المحلي جاهدا، وبشتى الوسائل والسبل، للحيلولة دون أخذ الذات العربية المغتربة ثقافيا بالأنسنية، كفلسفة حياة. الآخر المحلي واقعٌ كارثي، رغم جهل شعوبنا بوجوده..
الثائر المارتينيكي فرانز فانون يُنبهنا إلى ضرورة إدراك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة، هي في بعض الأحيان متباعدة، بل ومتعارضة!
فهناك دوماً أجزاء من المجتمع ـ الآخر المحلي ـ لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية. والشعب، وان تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار الغربي: العربي والغربي، يبيت لزاماً عليه أن يدرك أنه يتفق لعرب أن يكونوا أكثر آخرية من الآخر الغربي، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها. كما يبيت لزاماً على الشعب أيضاً أن يدرك أن هناك أناساً من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم. فهم يتاجرون، ويحققون أرباحاً طائلة، على حساب شعوبهم.
المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة الاستعمار الجهنمية/آلة الآخر الغربي، لا يلبث أن يكتشف أنه بقضائه على الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطاً للغاية في البداية، كان هناك في نظره أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال البغيضة يمكن أن تأخذ مظهراً غربياً أو عربياً. لذا، على الشعب أن يتعلم كيف يُندد بالآخرية المحلية، وأن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة، التي كان يتميز بها إدراكه للآخر. تلك هي وصية فانون للمُعذبين في أرضنا الطيبة(10).
الآخر العربي/المحلي واقع كارثي حقاً! أليس هو ـ وياللحسرة ـ من يتمتع وحده، ودون بقية أبناء مُجتمعه، باشراق شمس الوعي بالحرية، داخل قلبه وعقله! أليس هو من يُنتج الثقافة السائدة! أليس هو من يحول دون نقد وتطوير الفهم المُشوه للبطولة! الآخر العربي/المحلي يعلم جيداً أن تأبيد الفهم العربي المُشوه للبطولة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتعمية الذات العربية الحائرة عن الأنسنية، وادامة اغترابها الثقافي!
عوامل عديدة تساعد الآخر، على بلوغ غايته، ، أذكر منها العوامل التالية:
العامل الأول: افتقار ثقافتنا العربية الإسلامية لظهير فلسفي يُعتد به. فأبناء مجتمعاتنا العربية، وعلى خلاف أبناء مجتمعات أخرى ـ كالمجتمعات الأوروبية ـ، لم يمروا بتجربة "النقاء الفلسفي". الشعوب العربية قبل الإسلام لم تعرف التفلسف.
العامل الثاني: تسيد فلاسفة الضِرار للدوائر الفكرية والأكاديمية في مجتمعاتنا المتخلفة(11)! إنهم يقللون من أهمية نُشدان الحقيقة، ويُشيعون العُقم الفلسفي، فأقصى ما يستطيعه فلاسفة الضِرار هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! إنهم، جنباً إلى جنب مع محترفي التبرير الديني، يُلقون في روع الذات العربية المغتربة أن عليها أن تختار بين طريق الدين وبين طريقة في الحياة لا تحرص إلا على إشباع الغرائز والرفاهة المادية! بهذه الحيلة الشيطانية، يبدو سالكو طريق الدين، في مجتمعاتنا المتخلفة، على أنهم الوحيدون المهتمون بالروح، وأنهم المتحدثون الوحيدون عن الله وعن المثل العليا: الحب والحق والعدل! وهو ما يُسيء للفلسفة والفلاسفة، بوصف الفلسفة ـ إلى جانب الدين ـ أهم وأبرز الطرق المُتاحة أمام البشر لنُشدان الحقيقة!