يُخبئُ في وجْدانه الشوقَ والقلق
شعيب حليفي
نهر الشعر الهادر ، مازال قادرا على الجريان والامتداد طويلا في الحاضر والمستقبل.. يروي الحياة ، شاديا في التعبير عن المشاعر وخازنا حافظا للأحلام وما بينها من مساحات وأحواض للمتخيل بأصواته الشادية وبَوْحِهِ الحميمي الطاعن في ما يسقط عن الحقيقة والخيال ويبقى سهوا ذائبا .
نهر الشعر الذي اختلط بدماء وخيالات الشعراء والقراء ، ما زال مندفعا في شموخ الفاتحين ،عبر مسيره المظفر ، طاهرا مثل نبي يحبنا ونحبه ..ينشر ،باستمرار،علينا رسالاته.
ساهم الشعر العربي ، عبر جريانه الطويل ، في بناء تواريخ موازية، وفي رسم متخيل عربي إنساني من أجلى صوره، هوية الذات والروح البشرية وقد مسَّتها شُعاعات "السعادة" المجسدة في بلورة حلم ، أو حرارة وهم ...فيتم تحويل الأحلام والمحن إلى رقائق شعرية تسندُها رؤية استتيقية وفلسفية للحياة والأشياء والعلاقات.
و يوجدُ خَلْفَ كبار الشعراء في مسارهم الشعري وخلال صوغهم لفلسفتهم في الحياة ورؤيتهم الشعرية المعلومة ببصمتهم أو بصماتهم ، عدد آخر وقليل من الشعراء الذين لم يحالفهم حظ التلقي والانتشار الواسعين وقد خلَّفوا قصائد ، عبَّرت لحظتها عن متاهة الشاعر وحيرته قبل أن تصبح تلك النصوص علامة – من ضمن علامات أخرى - على متاهة مرحلة وجيل.
-1-
· حرثُ النسيان بأياد حرة
يُعتبر الشاعر المغربي الأندلسي ابن الصباغ الجذامي(1) (1288 – 1350) ،أحد هؤلاء الشعراء ، والذي ظل مجهولا بين الباحثين لفترة طويلة ،بحيث يشكل البحث عنه مجازفة لا تقل غرابة عن أشعاره التي قالها في مرحلة متأخرة من حياته وهو بمراكش بعدما أصبح شيخا زاهدا في الحياة.
ثلاثة تحولات كبرى كانت سبيلا في قوله الشعر خلال تلك السن المتأخرة ؛ تحولات من العيش الهادئ إلى المحنة ، على المستوى السياسي في الأندلس والمغرب ، وعلى مستوى حياته العائلية.ثم التحول على المستوى الثقافي وقد عرف تطورا في عدد من المستويات أجلاها التصوف.
عاش ابن الصباغ على حافة تحول كبير في المغرب والأندلس إبَّان عصر الخليفة الموحدي عمر المرتضى، من أهم علاماته انسلاخ عدد من المدن الأندلسية عن طاعة الموحدين وانتقال كرسي المملكة الإسلامية من اشبيلية إلى غرناطة واقتطاع أجزاء من الدولة واستقلالها عن الحكم الموحدي. فتوالت ضربات المرينيين الذين رأوا النصر على مرمى حجر ، وقد عجز عمر المرتضى عن صد هجماتهم، كما لم يقدر على ضربات بعض من الموحدين، ففر إلى مراكش التي قُتل بها سنة665هجرية ،حينما دخلها الواثق الموحدي ثائرا .
ويبدو أن ابن الصباغ قد عاش فترة طويلة، من حياته، في الأندلس هانئا لم يقل فيها شعرا أو لم يُظهره على الناس ، ولربما ـ كما قال المقري عنه في أزهار الرياض - عاش شبابه في اللهو والمجون ، قبل أن يعود في شيخوخته إلى الزهد والتصوف . لكن محنته ستبدأ بعد احتلال النصارى لبعض المدن الأندلسية وبداية الصراعات وبروز ملامح الانهيار، وبعدما أضاع كل شي وجار عليه الزمان وخذله ،كما ابتلي بفقدان أحبابه وولده وهي المواضيع التي قال فيها أجمل نصوصه وأقواها،وهو يغادر الأندلس نحو مراكش .
وإذا كانت المرحلة السياسية التي وُجِدَ فيها ابن الصباغ مطبوعة باختلالات مؤكدة ، فإنَّ الوجه الثقافي عموما كان ناضجا وحيًّا عبر تآليف في التراجم والنحو والسير والحديث والتصوف ، ونبغ علماء من صنف عبد العزيز الجزولي وابن القطان وأبي الربيع الكلاعي ، كما عرفت تلك الفترة تجديدات أساسية في الموشحات والأزجال أبدع فيها الششتري وابن عربي ، مثلما كتب آخرون في النظم الصوفي والتوسل والأمداح النبوية بالإضافة إلى ظهور نظريات صوفية وتصورات شهيرة في التصوف السني مع عبد السلام بن مشيش وأبي العباس المرسي وأبي محمد الحسن الشاذلي، أما التصوف الفلسفي فمع ابن عربي وابن سبعين.
***
· إلى متى تُخبئُ أبوابك عنا َ؟
يستطيع الشاعر محمد بنطلحة أن يُدهِشَ الشعر نفسه قبل إغوائه قارءه،كونه يمتلك قَدَراً شاعريا واستثنائيا يربطه بدم الكلمات في مسارها المعلوم والمجهول ، وبسلالات الشعراء والأدباء الذين خبروا سحر الاليغوريا وشراسة الواقع .
وقد أصدر ديوانه "قليلا أكثر"(2) ، بعد تجارب ترسخت في المشهد الإبداعي ضمن ديوان جامع بعنوان "ليتني أعمى " والجامع لأربع مجاميع سابقة ( نشيد البجع ، غيمة أو حجر، سودوم ،بعكس الماء ).
في كل نصوصه الباذخة بالشعر، يؤكد محمد بنطلحة مسارات خطواته الشعرية المديدة ، طولا وعرضا ، وانه طالع من فجر الكتابة الطهرانية بلغة لا أقنعة فيها ؛فهو منذ الأزل يُقيد أحلامنا المنهوبة في كنانيش سرية، ويجيد سبك تفاؤلاتنا المتصلة بجلد الأنبياء والشهداء .
لذلك ، فهو في كل ديوان يعلن دعوته الموصولة بكل الملاحم ..منذ نص جلجامش مرورا بامرئ القيس وطرفة ومالك بن الريب والمتنبي وصولا إلى ذاته التي يقف أمامها ، مُجازفا،يُدون أسرار النفس والحياة والموت وذبذبات الأصوات وآثار أقدام الذين يعرفهم ولا يعرفهم واحدا واحدا ..يصنع من كل هذا أثوابا بتلابيب يخبئ فيها ،بعناية بليغة، لُعبا وأسلحة وكنايات ومجازات واستعارات وصور خاصة جدا.
· بيان حقيقة
يا هذا
يا أنا
هل عرفت الآن
لماذا، أنا والمحيط الهادئ
من قبل أن تقفز شمس
العولمة
مثل
كرة
تنس
فوق شبكة المعنى
ونحن نرسم..
ونسكر
ليس في المتاحف،
ولكن
في الهواء الطلق
هل عرفت؟:
إذن، أكرر
لا أنا الإسكندر
ولا أنا زوربا
أنا لا أحد.
أنا شاعر مجهول.
(محمد بنطلحة .قصيدة بيان حقيقة).
-2-
· شاعر بعينين في السماء
يرجعُ كبير الفضل في إحياء صوت ابن الصباغ إلى المقري وابن القطان قديما ، والى نور الهدى الكتاني حديثا والتي نقبَّت لسنوات، وبمجهود أكاديمي واضح، وحققت النسخة الوحيدة من الديوان وعملت على إخراجها إلى الوجود.
لا توجد للشاعر ابن الصباغ ترجمة وافية، رغم أن أشعاره كانت وما زالت ،حتى الآن، ينشدها المنشدون بفاس ومراكش في الحفلات الشعبية الخاصة بالمولد النبوي، بالإضافة إلى " كون بعض قصائده قد نُسِبت إلى الخليفة المرتضى، وتداولها الناس على أنها من نظمه ، واغلب الظن أن هذا راجع إلى كثرة ترديد الخليفة لهذه القصائد وإعجابه بها")ص10( ، مثلما ان العديد من الكتاب في تلك الفترة كانوا يستشهدون بأبيات من شعره دون ذكر اسمه .
هل هو سوء طالع أن يعيش سنواته الأخيرة في محنته مُنفسا عن كربته بقول الشعر ، فيعيش هذا الشعر نفسه محنة تداوله بإغفال اسم الشاعر لدى الفئات الشعبية أو لدى الحاكمين والنخبة المثقفة؟ .
لم يكن فقط زاهدا في الحياة ، متبرما من كل شيء يجعله قريبا منها ، ولكنه أيضا غير معني بجمع شعره أو التكسب به ، وإنما قاله كما لو هو عين انفجرت من نفسه ، نتيجة ضغط الدهر وجوره المتأخر ..ففاضت أبخرة تُطوِّحُ بتلك الآلام قبل أن تعود إليه مقطرة وأشد كثافة وقتامة !.
ظلت النسخة الوحيدة من ديوان ابن الصباغ مجهولة الناسخ ، وقد اكتشفت الباحثة نور الهدى الكتاني أن ناسخ وجامع الديوان هو العالم والإمام ابن القطان ، وهو بدوره غير معروف ، جمع الديوان وعلق عليه ورتبه ثم كتب الإهداء وأهداه إلى الخليفة الموحدي عمر المرتضى دون أن يشير إلى اسمه باعتباره جامعا وناسخا ، علما بأن عملية الجمع قد تم جزء أساسي منها في حياة ابن الصباغ ، وجزء آخر بعد مماته .
خَلَّفَ الشاعر ديوانا شعريا متنوعا من قصائد وتخميسات وموشحات توزعت بين المديح النبوي والحجازيات، وبين الزهد والتصوف وجميعها عبارة عن رسائل إلى الله والرسول ثم إلى ذاته ..وقد صاغها بأنفاس غير مكرورة ، تبوح أكثر مما تقول، بكلمات وجمل تندفع بحنينها وشوقها وتحرقاتها تحرث النفس بلا هوادة ..وهي على حافات الأمل اللامحدود والإحباط الثقيل.
ساهمت في بناء هذه القصائد ، ثقافة الشاعر المتمتع بمعرفة واسعة في الشعر العربي القديم واللغة والضوابط والثقافة الصوفية ، إذْ "كان من الصوفية أصحاب المجاهدة وقيام الليل وصوم الأيام الكريمة ، والقيام بمجالس الذكر وإنشاد السماع ")ص35(.
حقق ابن الصباغ في شعره ملتقى كل التيارات الفنية والأدبية السائدة في عصره جاعلا من نصوصه بناء منفتحا على قصائد أخرى ومعان جديدة بدلالات مُطوِّعة للخميرة النفسية بدواخله ، فتطلع كما يريدها الشاعر ، معنى ظاهرا مقابل شعر آخر ممحو يرقد خلف قصائد تمثل تلك الحياة التي عاشها ولم يستطع التعبير عنها وعن شموخها في نفسه ، أيام شبابه وقوته. ولعل من خصوصياته الشعرية التكرار المفرط في جل قصائده لمعاني الضياع والشباب والنفس والخيبة وكأنه يقول متذكرا ما ضيعه وخشِيَ الرجوع إليه في زمن ضاعت فيه كل الأشياء، من فتوة وأرض وأبناء . من ثمة يُزهر المعنى الشعري في قصائد ابن الصباغ برَحِمِ تلك المعاني المخبأة بعناية والشاعر يقول آخر كلماته ويرحل:
· ومما قاله :
ضيَّعتُ أيامَ ريعان الشباب وقد أصبحتُ أبكي الذي ضيعتُ في الكِبَر
يا نفس ذوبي على ما فات منه أسى يا عين سُحِّي دما قد عيل مصطبري
وليس لي حيلة أرجو سوى أدمع ينهل وَاكِفُها من الخد كالمطر ) ص143(.
***
· أنتَ ..شاعر الروح المنسية
محمد بنطلحة شاعر من فاس ، يحمل من آثار الأمكنة ما يجعل الذكرى رقائق متراكبة إلى جانب سنوات من عمره الشعري الذي يختزن وهج معاني الفضاءات من فاس، انزكان ، أكادير ،القنيطرة ،ايكس أون بروفانس،مراكش ، مكناس..وفي كل هذه الأماكن التي مر بها كانت له أسفار في معارج موازية للشعر العربي والعالمي .
في ديوانه الأخير (قليلا أقل) ، وأنا قارئ متتبع لشعره ، أحسستُ بحياة أخرى تتخلق من العمق الخفي لتجربته الطويلة ، وقد صار محمد بنطلحة يمتلك حرية "مفرطة ومجازفة " في إبداع نصوصه ، ضمن خمسة أبواب (قدر إغريقي- ماذا سأخسر؟- المرحلة الزرقاء- جنيالوجيا- نجوم في النهار) حتى إن القراءة النقدية تبدو صعبة ومبكرة لشق أبواب المعاني وتحتاج إلى التأمل المديد والانتظار ،فالشاعر مثل الماء، يحمل أسرار الأرض والسماء ، يسير ظاهرا وخفيا .أليست صفته من صفات "المجاذيب" الأولياء وهو يقول :
كم ذهبتُ إلى آخر الأرضِ
أنا
الزائلُ
والأزليُّ
كم وفيْتُ للحمائم
وكم غدرتُ بالصقور.
في أحد الأسفار
سَرَطَ القَدَرُ لُعابهُ.وعرضَ عليَّ
في مقابل الجزء الأول من مذكراتي
ثمنا باهظا :
أن أجعلَ من جسدي
ساحة حرب/وأن يرى
ويسكتَ
على الورق،
هزمتُ
وانهزمتُ
وفي الحقيقة،لم أكن أنا من ذَهَبَ
إلى آخر الأرض
لم أكن أنا صاحب الجبروت
وإنما ظلي .
· محمد بنطلحة
ليست للشاعر سيرة معلومة سوى سير نصوصه وما خبَّأه فيها أو ما أرجأه من نُطفٍ حية في صدره الكبير .
ثم سيقول:
" اسم مستعار
عند هيرودوت:هو الذي ، حينما عثر على برج بابل في صندوقه البريدي
عثر أيضا
على
رقعة شطرنج
وحكمة قديمة : أعلى مراتب الحقيقة : الكذب .
واليومَ، حيث كل الحقائق مؤجلة :
النبيذ إلى الغد.
والذكريات إلى حياة غير هذه ،ماذا سأفهم ؟في موقع:خلية نائمة .وفي آخرَ: لا ينام أبدا .
أنا
كيف أكون معاصرا له
وكل ما بيننا، منذ ما قبل التاريخ
ظلال
وأقنعة؟
( من قصيدة بعنوان محمد بنطلحة .ص86 – من ديوان قليلا أقل ).
-3-
· الكتابة عن كاسبارا ستامبا
يُبهجني كثيرا أن تعْلَم كاسبارا ستامبا ،دون غيرها ، جلوسي اليوم لأجلها، أكتبُ عنها ما كنتُ كتمته طوال عمري .
فأنا لم أوقِّرها على امتداد قرون وليس سنوات معدودات .رغم أني تعرفتُ عليها منذ عقدين تامَّين مندهشا بشعرها وشعورها وبكل خلجات روحها الأخاذة التي هدمت أي حياء أو عُقد وأنا طالب جامعي – لحظتئد- منخرط في الحياة بكل مباهجها .
فكلما قرأت أوأعاود قراءة ديوانها الوحيد ،أعتقد أنها تتحدث عني في كل كلمة ومعنى..وهذا هو المدخل الذي دفع بأصدقائي في تلك المرحلة (كنا ستة طلبة ننتمي جميعا إلى منطقة واحدة وجامعة واحدة ) إلى التعرف عليها فأصبحت شاعرتنا جميعا نتتافس على شعرها وشعورها ، نحاورها بلغاتنا النثرية الدافئة ، كما كانت تبادلنا نفس الود بقصائد عذبة ونظرات تأسرنا .
شاعرتنا كاسبارا ستامبا ولدت ببادوي الايطالية عام 1523 ، وعاشت إلى جانب أختها كاسندرا وأخيها بالتازار ، فتلقوا تربية فنية وأدبية ،ثم سينتقلون إلى فينيزيا/ البندقية ، مسقط رأس والدتها ، عقب وفاة والدها وعمرها سبع سنوات.
أصبحت كاسبارا متفوقة في الشعر والموسيقى والغناء، تحفظ أشعار بيتراركا وما ينظمه أصدقاؤها مما جعلها مطلوبة في الصالونات الأدبية ، حيث سيرتبُ لها القدر لقاءً أرجوانيا في سنة 1548 بالكونت كولانتينو، وهو شاب مغامر يحب الشعر والصيد والحروب أيضا ، فتشكلت بينهما قصة عاطفية ، لكنه بعد سنة واحدة سيرحل عنها إلى فرنسا في مهمة عسكرية لخدمة ملكها هنري الثاني ، لما عاد أخذ كاسبارا معه إلى قصره بسان سالفاتوري ، ثم لم يلبث أن غادرها مرة أخرى وهو الأمر الذي جعل تيمة الغياب حاضرة في عدد من قصائدها .
ولتأتي شُعاعاتكَ لتُريحَ قلبي
وآسفاه ! على الأقل في هذه لهنيهة
فقريبا ستبتعد
في غياب يُفجِّرُ دموعي.
دعْ تلك الهضاب الضاحكة، مسكنك العالي
الكارهة لما أبتغي
تلك الهضاب ، في العادة ، أصبحتْ
تُعذبتي اليوم ، وهي عليمةٌ.
الأزهار في شعرها ..إذا تركتَ الجميلات
لا تموت .لكن لو تتركني
أنا ... حياتي معكَ يمكن أن ترحل !
الجواب : لا ! الشفقة ..أليس كذلك أيها الكونت
نعم،ترفضُ من يلتمسُ الغوثَ
فلُطفا ورحمة .
***
في سنة 1551 رجع الكونت كولانتينو إلى البندقية وكانت علاقته بكاسبارا قد فترت ثم انقطعت بعد ذلك .
آنذاك لم تتحمل ستامبا هذا الانفصال عن حبيبها وحبها المتوحش له ،فانهارت وفي روحها خسارة كبيرة .ورغم تحسن حالتها الصحية لسنة واحدة ، عاودت السقوط وماتت يوم 23 أبريل 1554 عن عمر 31 سنة .
***
كان لمقطع شعري كتبه الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه(1875-1926) في المرثية الأولى من مراثي دوينو العشر، أثر شاعري لمعاودة تذكر كاسبارا التي ظلت- ولمدة طويلة - منسية في قبرها بحسراتها.
يقول ريلكه:
(كاسبارا ستامبا كفايةً ؟ إنَّ أيَّ فتاةٍ، هجرها حبيبُـها،
كمثالٍ بارزٍ لهؤلاء العشّاق، تَحسَبُ: هل سأكونُ مثلَها؟
ألا ينبغي لهذه الآلام الأكثَرِ قِـدَماً أنْ تكونَ في النّهاية
أكثرَ إثماراً لنا ؟ أليس هذا وقتَ
أنْ نحرِّرَ أنفسَنا بحبٍّ مِمّن نُحبُّ ، وأنْ نتحمّل مُرتَعِشين:
كما يتحمّـل السّهمُ وتـرَ القوس، لنتجمَّع في وثبة نكون أكثرَ
وجوداً من وجوده ؟ لبقاءٍ في لا مكان.
أصواتٌ أصواتٌ. أصْـغِ، يا قلبي، لأنَّ قدّيسين فقط أصْغَوا:
إلى أنْ رفعهم النِّداءُ الجبّارُ عَـلِـيّـاً من على سطح الأرض.)
***
في حياتها القصيرة ، ذات الثلاثين ربيعا ، عاشت كاسبارا ستامبا كل لحظاتها على إيقاع الشعر والألم والانتظار..ورغم ذلك استطاعت ،ببلاغة ناعمة، رصد حالتها الوجدانية في 311 سونيتة كتبتها ما بين 1540و1553 حكت خلالها يوميات حب حارق بدواخلها الهشة بعدما حولته إلى مرايا عشق ساخن ..فكانت مثل فراشة تصنع من النار قوسها الأخير.
وستعمل أختها كاساندرا في السنة التي توفيت فيها كاسبارا على جمع وإصدار ديوانها الوحيد تحت عنوان "قافية " Rime .(3)
وإذا كانت إشارة ريلكه إلى كاسبارا في قصيدته الشهيرة الشرارة الأولى، فإن التفات النقاد في أوربا وأمريكا إلى الشاعرة، وشاعرات أخريات من القرن السادس عشر، وترجمة ديوانها جعلها تحيا من جديد ضمن أسئلتنا المعاصرة، من بينهم اسم غريب لناشر إيطالي يحمل اسما عربيا هو عبد القادر سالزا (4)، والذي اعتنى بجمع ديوان كاسبارا وضم إليه قصائد أخرى للشاعرة فيرونيكا فرانكو وطبعه بمدينة باري الايطالية سنة 1913 وفي السنتين المواليتين سيُصدر كتابين آخرين ،الأول دراسات عن لودفيكو ارييسوتو ، أما الثاني فكان كتيبا عن قوافي جديدة ونادرة لكاسبارا وفيرونيكا .
· مساء الخير فيرونيكا !
فرانكو فيرونيكا التي وُلدت سنة قبل وفاة كاسبارا بالبندقية ، هي شاعرة وموسيقية ، اشتهرت بحياة التحرر رفقة النبلاء والأدباء والفنانين ، بحيث قُيِّدت في الكاتالوغ الأساسي للبندقية كأمتع وأجمل مومس مثقفة ..مما جعل هنري الثالث ، ملك فرنسا ، يختارها خليلة له أثناء زيارته للبندقية في يوليوز 1574.إثر ذلك رسم لها الرسام الايطالي جاكوبو روبوستي صورة زيتية تعكس فتنتها ونظراتها الحية .
في سنة 1575 ستنشرُ فيرونيكا ديوانها الأول متضمنا بعض قصائد شاعر مغمور يدعى ماركو فيني.كما ستصدر في سنة 1580 مؤلفا ثانيا عبارة عن رسائل(5) ، أهدت الرسالتين الأوليتين منه إلى هنري الثالث بينما العشرون رسالة الموالية إلى الرسام جاكوبو .
وسواء في قصائدها أو رسائلها ، فإن فيرونيكا لم تكتب سوى عن ذاتها وعن تلك الفسحة المشتعلة والعريضة من مسار حياتها المتحررة بالبندقية فوق ماء عائم يتخايل بين الدروب والساحات.
وكما هو حال بعض الشعراء والشاعرات(6) ، ستنتهي حياتها فقيرة وتموت في الخامسة والأربعين من عمرها (21 يوليوز 1591) بعدما خلفت ستة أبناء من أباء مختلفين ، لم يعش منهم سوى ثلاثة .وقبل موتها قُدمت للمحاكمة بتهمة ممارسة السحر في بيتها . مما جعلها في القرن العشرين مادة سحرية للمخرج السينمائي هنري هيرسكوفيتز في فيلم سينمائي أمريكي (1998) عن كتاب لماركاريت روزانتال .كما أصدرت الكاتبة والرسامة الفرنسية مشيل تسيير رواية بعنوان " أنا فيرونيكا ماركو".
-4-
· سيرة حمراء
شهدت حياة لسان الدين بن الخطيب (المزداد في 16 نونبر 1313 ) والمتوفى قتيلا في بداية سبتمبر 1374، تقلبات كثيرة وصعبة خصوصا في الخمسة عشر سنة الأخيرة من حياته.فقد كان شاهدا وفاعلا في فترة مضطربة سياسيا ومزدهرة ثقافيا (ق14).
ألف ابن الخطيب، الأديب والوزير، جل وأهم مؤلفاته حينما كان بسلا وفاس (المغرب) بعيدا عن مناصبه السياسية ومتاعب الدسائس والمؤامرات.
في نهاية غشت 1359، وبعد انقلاب على أبي عبد الله محمد الغنى بالله ، فر إلى المغرب لدى السلطان أبي سالم المريني مع سلطانه وقد فَقَدَ كل شيء بالأندلس، وهناك التقى بابن خلدون، ثم استأذن السلطان ليقوم بجولة في عمالات مراكش وسلا.. سيدونها في مؤلفه (نفاضة الجراب في علالة الاغتراب).
قضى ابن الخطيب عامين في سلا التي أحبها واشترى فيها ضياعا كما أنه راسل الرحالة ابن بطوطة وهو قاضي تامسنا لحظتها. لكن الظروف مرة أخرى تأتي بانقلاب ضد السلطان المغربي أبي سالم الذي لقي مصرعه على يد صهره الوزير عمر بن عبد الله في سبتمبر 1361 ،ويصبح أبو زيان المريني ملكا مكانه بعد وساطة الغني بالله، فاسترد هذا الأخير ملكه بغرناطة سنة 1362 بمساعدة ملك المغرب، كما عاد ابن الخطيب إلى غرناطة لكن أعداءه الكثر استطاعوا إفساد علاقاته مع السلطان ففر في أواسط سنة 1371 ،بحيلة، إلى المغرب بتلمسان لدى السلطان عبد العزيز المريني.
وواتت الفرصة أعداءه بغرناطة الذين اتهموه بالزندقة والقول بالحلول والاتحاد، فرتب فقهاء غرناطة وفاس صك الاتهام، بإيحاء وإشراف الشاعر ابن زمرك خليفته في منصب الوزارة، والقاضي أبو الحسن النبهاني، فأفتوا بإحراق كتبه التي تتناول العقائد والأخلاق، سنة 1372 بغرناطة، وأعدوا وثيقة اتهامية (صك الإعدام) وافق عليها سلطان غرناطة الغنى بالله وبعث بها إلى السلطان المغربي عبد العزيز الذي رفض الانصياع للأمر.
وتسوء أقدار ابن الخطيب بوفاة عبد العزيز المريني وتولي أبوالعباس أحمد المُلك بالمغرب في سبتمبر 1374 بمساعدة سلطان غرناطة، والثمن هو رأس ابن الخطيب. فاعتقلوه بفاس وجاء ابن زمرك من غرناطة لتنفيذ حكم القتل... وفعلا دخل عليه حراس خنقوه بسجنه ليلا، ، وفي الغد دُفن بمقبرة باب الحروق، ليُخرجوا جثثه في اليوم التالي وتُطرحُ فوق القبر لإحراقها ثم تُعادُ إلى القبر. وبعد حوالي عشرين سنة على هذا الحادث سيلقى ابن زمرك حتفه قتلا هو وأهله وخدمه (أواخر 1395).
لقد شكل ابن الخطيب مدرسة متعددة التخصصات وملتقى للثقافات والأشكال : في الشعر والزجل والأراجيز وفي كافة الأغراض، كما في تاريخ المدن والجغرافيا وفي السياسة والعلوم والتصوف والطبخ والموسيقى والجهاد وأدب الرسائل والمناقشات والتراجم وأدب الرحلات وأيضا في الحكي المتخيل "رسالة في السياسة" .
· الرحلة الأخيرة
من المفارقات في حياة لسان الدين أنه كثيرا ما وقف مادحا أو راثيا .. بانيا لمجده السياسي، أو رحالة يشاهد ويُدَوِّن ويؤلف دون أن يخطر بباله أنه سيقفُ في آخر إبداعاته على إنجاز مرثية بليغة لنفسه وقد تيقن وهو بسجن فاس أن مصرعه، قتلا، أصبح أمرا محسوما فيه، فكانت القصيدة رحلة أخيرة في الحياة وفي الإنتاج الأدبي،قالها ليلة قتله ، سجلها ابن خلدون في (العبر) والمقري في (أزهار الرياض) :
بَعُدْنا وإن جاورتنا البيوتُ وجئنا بوعظ ونحن صموتُ
وأنفاسنا سكنت دفعة كجهر الصلاة تلاه القنوت
وكنا عظاما فصرنا عظاما وكنا نقوت فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العلا غربن فناحت عليها البيوت
فكم خذلت ذا الحسام الظباء وذو البخت كم جدَّلته البخوت
وكم سيق للقبر في خرقة فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات ومن ذا الذي لا يفوت
فمن كان يفرح منهم له فقل يفرح اليوم من لا يموت.
هوامش
(1)- نورالهدى الكتاني ) تقديم وتحقيق(:ديوان ابن الصباغ الجذامي .أبو ظبي ، إصدارات المجمع الثقافي . الإمارات العربية المتحدة ،2003.
(2)- محمد بنطلحة :قليلا أكثر.شعر .الدار البيضاء دار الثقافة .المغرب ط1- 2007
(3)Gaspara Stampa. pèmes [1991], trad. de l'italien par Paul Bachmann. Présentation du traducteur
Édition bilingue, 228 pages
وقد صدرت الطبعة الأولى في سنة وفاتها بإشراف أختها كاساندرا مهداة إلى جيوفاني ديل كاسّا :
Stampa, Gaspara, 1523-1554; Stampa, Cassandra, fl. 1554; Della Casa, Giovanni, 1503-1556; Varchi, Benedetto, 1503-1565; Della Stufa, Giulio; Pietrasanta, Plinio, Rime di Madonna Gaspara Stampa (Venezia: Plinio Pietrasanta, 1554)
(4) الالتفات العربي الوحيد في الأدب العربي لهذه الشاعرة كان في ندوة20 أبريل 2007 بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء حول شاعرات من ايطاليا روسيا المكسيك والشيلي عنوان المداخلة: قوافي كاسبارا ستامبا لشعيب حليفي.
- عبد القادر سالزا Salza(1875- 1919) ،لم أعثر له على ما يفيد في معرفة سيرته وأصوله، باستثناء أنه درس بالمدرسة العليا في بيزا الايطالية ما بين 1894 و1897 وكان صديقا للكاتب جيوفاني جانتي وبينهما مراسلات؛ كما أن جانتي كتب عن سالزا مقالة بعد وفاته :
- Indimenticabile condiscepolo :Abdelkader Salza.ingiornale storico della letterarura Italiana. Lxxiii,1919.p.348-352.
أما العمل الذي أنجزه عبد القادر سالزا باللغة الإيطالية فهو :
Stampa, Gaspara, 1523-1554; Franco, Veronica, 1546-1591; Stampa, Baldassare; Salza, Abd-el-Kader, 1875-1919, ed., Gaspara Stampa-Veronica Franco: rime.415 p., 22 cm. (Bari: Laterza, 1913)
Table of Contents :Part I: Gaspara Stampa. Dedica. -- I. Rime d'amore. -- II. Rime varie. -- Appendice: I. Rime di diversi in lode e in morte di Gaspara Stampa. -- II. Rime di Baldassare Stampa. --III. Rime del conte Collaltino di Collalto.--IV. Rime del conte Vinciguerra II di Collalto. Part II: Veronica Franco. I. Terze rime. -- II. Sonetti. Nota. -- Indice dei capoversi. -- Correzioni.
ومن كتاباته الأخرى :
- Abd-El-kader Salza Studi su Ludovico Ariosto, bross. edit. Ill. pp 312.1914
- Abd-El-kader Salza, Luca Contile : uomo di lettere e di negozj del secolo XVI : contributo alla storia della vita di corte e dei poligrafi del 500. Firenze : Tip. G. Carnesecchi e figli, 1903- 293 p .
(5) - Terze rime :1575 - Lettere familiari a diversi : 1580.
Franco, Veronica, 1546-1591: Terze rime di Veronica Franca al serenissimo signor duca di Mantova et di Monferrato .1st ed..Venezia 1575
(6)- ايزابيلا مورا isabella di morra (1520-1546) نموذج آخر ، فهي شاعرة ايطالية، ثالثة أخوتها الثمانية ، قتلها أخوتها بعدما اكتشفوا علاقتها السرية، عبر المراسلات والأشعار ، مع البارون الاسباني دييكو ساندوفال دو كاسترو ، وكان بدوره شاعرا يقيم بالقرب منهم .قتل أخوتها حامل الرسائل أولا ثم أختهم قبل أن يطاردوا العاشق .وقد كان دييكو يراسلها ياسم زوجته أستونيا كاراكيولو .
خلفت ازابيلا عشر سونيتات وثلاثة أناشيد ، وفي سنة 1552 سينشر لها لودفيكو دولسي ثمان سونيتات وأناشيد ضمن دوان جامع لعدد من الشعراء ؛ ثم يكتشف سونيتتين نشيدين للشاعرة .وفي 1559 يصدر الأشعار والاناشيد الكاملة .
وقد أنجزت المخرجة الايطالية مارتا بيفانو فيلما سينيمائيا حول حياتها بعنوانsexum superando.2005).
[code]