اللهم أخزك يا شيطان
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
كان الموقف صعباً للغاية.
مشت سيارة «سمير» على غير هدى في شارع الشميسي القديم .. ما كان يريد غير أن ترضى عنه «صباح»، فلا تعود إلى البيت لتشكو إلى المهندس صالح والدكتورة سناء منه ..
وكأنه لا يعرف الطريق، سألها:
ـ هل نذهبُ من شارع الملك فهد أم من شارع التخصصي؟
قالت في غضبٍ ونفور:
ـ لا أدري! .. كل الطرق توصلنا إلى الحديقة ..
اهتز إطار مقود السيارة بين يديه ..
ضرب جبهته بيده، وكأنه يقول لنفسه: كيف أجهل طريقي وأنا الذي أعرف مدينة الرياض جيداً؟ .. أعرفها منطقةً منطقةً، وشارعاً شارعاً، بل أعرف أماكن فيها قد لا يعرفها أحدٌ من أبنائها؟!!
ألم أقم فيها منذ خمس عشرة سنة منذ تخرجي من هندسة الإسكندرية والمجيء إلى العمل بالمملكة وأنا في الثالثة والعشرين من العمر؟
وأجاب على نفسه بصوت مسموع، سمعته صباح:
ـ بلى!
...
قالت له ضرتها «الدكتورة سناء» قبيل العصر .. لقد اكتشفتُ أن «صباح» تثق فيك (قالتْها الخبيثة بلهجة كأنها تقول له «إنها تحبك»)، ولهذا فهي تُهاتفك دائماً قبيل الفجر .. وتستشيرك فيما يجد من أمور!!
كيف عرفتْ وهي تقيم في شقة أخرى، تعلو شقة صباح، في العمارة نفسها؟!!
قال في لهجة غاضبة:
ـ ألستُ ابنَ خالتَها، وقبل ذلك صديق الأسرة؟
وأضاف في برود:
ـ ألا تطلبينني أنت أيضاً شاكيةً لي من بعض الأمور التي تغضبك، ولا تعجبك منها ومن غيرها؟!
كاد يقول لها:
ـ ومن صديقي ورئيسي المهندس صالح أيضا!
ولكنه أمسك لسانه في آخر لحظة!
قالت الدكتورة سناء:
ـ ألم تعلم؟
ـ ماذا؟
ـ لقد قالت صباح لصالح أن سميراً لم يعد صديق الأسرة فقط، أو ابن خالتها فحسب، بل صار أخاً وأباً لها في الرياض؛ تستشيره في أخص خصائصها! .. وستعمل في المستقبل ما يُشير عليها به!
ما الذي يجعل «صباح» تكلم زوجها في ذلك الأمر؟! وبهذه اللغة؟!!
هل في الأمر خطةٌ ما ـ أو وقيعة ما ـ تُريدها «الدكتورة سناء»؟ أو تُدبِّر لها؟
.. هل تريد لهما السقوط معاً .. لتنفرد بالمهندس صالح؟! وهل تريد أن تقول له إنني أصون عرضك، بينما من جاءت لك بالوريث ـ بعد الخامسة والخمسين ـ تتلاعب بك .. مع من؟ .. مع صديقك «سمير»، ابن خالتها، الذي أقنعك بالزواج الثاني لتُنجب الوريث، ورشحها لك؟!!
لقد قالت «الدكتورة سناء» لسمير حينما حضر:
ـ صباح في حالة سيئة اليوم، خذها فسِّحها في إحدى الحدائق .. التي نذهب لها معاً مساء كل خميس.
وظلت «الدكتورة سناء» تداعبه، وتضحك معه بصورة لم يعرفها فيها من قبل، بل أخذت «صالح الصغير» ابن صباح معها، وتركت «سمير» ينفرد بها، بعيداً عن مضايقة الطفل الذي اكتسب شغب أمه!!
وقالت:
ـ دعْ صالحاً الصغير معنا، فصباح في حاجة لأن تستريح من مضايقاته أربع ساعات!
قال في نفسه:
ـ هل حددت لنا الخبيثة الساعات التي نقضيها معاً؟!
اكتشف سمير ـ وصباح تجلس بجواره في سيّارته ـ أنه ينظر لابنة خالته باشتهاء، لم يلحظه في نفسه من قبل!
راقبها، وتأمَّل كل جزء من أجزائها قبل أن تتحرّك السيارة.
هل وأد الإنسان في داخله، ولم يعد يتذكّر الصداقة مع صالح زميله ورئيسه في العمل؟ بل ولا يتذكر خالته «زينب» التي تقول له كلما يُسافر إلى كفر الشيخ في إجازة:
ـ أنا مطمئنة على صباح، طالما أنت في الرياض.
ـ في عيني يا خالتي.
ـ هي أختك الصغيرة.
***
.. رأى «سمير» أنه صار وغداً ـ بل وسافلاً ـ بالفعل!!
وصلا إلى حديقة «العليا» ..
جلسا متجاوريْن على الأرض في المكان نفسِه الذي كان يجلس فيه، ومعهما «الدكتورة سناء» و«المهندس صالح» و«صالح الصغير» منذ أسبوع.
نظر إليها حينما أعطته قطعة من اللادن، ورآها تتشدّق بها، ولسان حالها الآن .. كما يصورها له خياله .. أنها امرأة ساقطة فعلاً!!
هذه البنت التي أخذت دبلوم التجارة منذ خمس سنوات، ورشحها لرئيسه المهندس صالح، الذي كان قد اقترب من الثامنة والأربعين، حينما سأله المهندس صالح والدكتورة سناء عن بنت «غلبانة» و«على قد حالها» تأتي لهما بمولود أو مولودة!
رشحها لهما وهو يعرف أنها بنت جميلة، لكنها منطوية ومنكسرة، فأبوها المهندس الزراعي مشلول منذ عقد من الزمان، وأمها ـ خالته ـ ناظرة مدرسة ابتدائية في كفر الشيخ، لم يُنجبا غيرها، وكانا يتمنيان أن تتعلّم وتتخرّج من الجامعة، ولكن درجاتها في الشهادة الإعدادية وجهتها إلى مدرسة التجارة!.
لم يقُل لهما أول الأمر أنها قريبته.
لكنهما ـ المهندس صالح والدكتورة سناء ـ كان قد عرفا أنها ابنة خالته قبل إتمام إجراءات الزواج؟
سأل سمير نفسه منذ عدة أيام:
ما الذي يجعل «صباح» الآن متمردة، وتُريد أن تجعل رأسها برأس الدكتورة سناء الأستاذة بطب الإسكندرية، والأستاذة الآن بجامعة الملك سعود بالرياض؟
حينما جاءت «صباح» إلى الرياض من أربعة أعوام ونصف رفضت الدكتورة سناء أن تُقيم معها «ضرتها» في شقة واحدة، في العمارة التي يُقيمان فيها في منتصف شارع «الخزان»، في الطابق الرابع. ووجد المهندس صالح ـ ويا لحسن الحظ ـ شقة في الطابق الثاني من العمارة نفسها .. فأقامت فيها الزوجة الشابة.
لم يُشعِر المهندس صالحٌ الدكتورةَ سناء أن زوجته الجديدة ضرة لها، بل أشعرها ـ دائماً ـ أنها خادمتها، وأنها لا تُدانيها في المنزلة أو القدر، وأنه تزوّج منها لمجرد المجيء بالولد.
وجاء الولد بعد تسعة أشهر، واقترحت الدكتورة سناء أن يسمى باسم أبيه، فسموه «صالحاً».
***
داعبت فكرة شيطانية مخيلة سمير، وهو يجلس بجوار صباح: ماذا لو أخطأ ـ هو الذي لم يُخطئ من قبل، ولله الحمد ـ مع ابنة خالته صباح؟
فكَّر سمير فيما سيقوله الناس عنه إذا خان صديقه، وارتكب فعلاً شائناً مع صباح ـ ابنة خالته، أو أخته الصغيرة! ـ أو ما يمكن أن يجرى له أو يُصيبه في الرياض، من العقاب الشرعي .. الموت رجماً .. إذا شاع أمره معها، فأُصيب بإحباط!! .. واستغفر الله العظيم من الشيطان الرجيم.
...
ربما ليثُبت لنفسه أنه مروض لنمرة شرسة، قال لها:
ـ ألاحظ مؤخراً أن وجهك مصفر دائماً .. هل أنت متعبة يا صباح؟؟!
استمرّت في مضغ اللادن بصوت مسموع، ولم ترد، بل رفعت حاجبيها، تسأله أن يُعيد سؤاله!!
أضاف في غير اكتراث:
ـ أنت لم تعودي «صباح» ابنة خالتي التي عرفتها .. أو صباح التي كانت منذ خمسة أعوام حينما تزوجت المهندس «صالح رشاد»!!
.. قالت في ضجر:
ـ أنت لم تعرفني أبداً، ولا تحس بما أُعانيه!
.. ابتسم:
ـ حينما رشحتك للمهندس صالح كنتِ أكثر جمالاً وحيوية من الآن، كنتِ تُشبهين عارضات الأزياء! .. ما الذي جرى لك؟ .. ولماذا لا تبوحين لابن خالتك بهمومك وهواجسك؟!!
قالت:
ـ لم أحس أنني تزوّجت!
استفسر بهزة رأس، فقالت:
ـ حاولتُ طوال أربعة أعوام أن أثبت لنفسي أني مروضة جيدة للنمور .. أو للقرود .. مع صالح وسناء فلم أستطع!
قال وهو يزن كلماته جيداً، لأن «صباح» خفيفة، ولا يثق بها، فقد تنقل ما يقوله إلى المهندس والدكتورة:
ـ هما أليفان، وطيبان وأولاد حلال .. فلماذا تثيرين حفيظتهما عليك دائماً؟!! .. هل تعلمين أن «الدكتورة سناء» هي التي أصرّتْ على أن يتزوّج صالح منك بعد أن جاءت ورأتك في كفر الشيخ، بعد ترشيحي لك؟!
ضحكت ضحكة صفراء:
ـ قديمة!!
أضاف في لهجته الودود التي يُتقنها:
ـ وهل تعرفين أيضاً أنها تحب ابنك أكثر من حبك أنتِ له؟
قالت وهي تنظر للناحية الأخرى:
ـ قديمة!
وابتلعت ريقها، وأضافت وهي متوترة:
ـ هي تقول ذلك، ولكني لا أصدق!.
وارتفع صوتها:
ـ هل الأم المستعارة للطفل تحبه كالأم الحقيقية؟!!
..............
قال وقد نفد صبره:
ـ وهل تُدركين أنها هي التي رجتني أن آتي بك لهذه الحديقة؟، وهي التي أقنعت «المهندس صالح» أنك في حاجة للفسحة والبُعد عن جوِّ البيت؟ .. بل أخذت ابنك معها، حتى تستمتعي ...
قاطعته، جادةً، كأنها لا تسمع ما يقول:
ـ بم أستمتع؟ بهذا الحرِّ الذي يكاد يشوي وجهي في الحديقة؟!!
ومرّت بأصابعها على جبهتها، لتنزل قطرات من العرق.
ردَّ عليْها في برود:
ـ بل تستمتعين بهذه الفسحة، وبهذا الترويح!
قالت صارخة:
ـ ليس هذا ترويحاً (وبلعت ريقها، وقالت بصوت متوتر بالغضب كأنها تُلقي قنبلة) أحس أنني على شفا حفرة؛ سأقع فيها!
ونظرت إلى الأرض، وهي تؤكد على الكلمات:
ـ .. سأسقط!
قال وهو يبتلع ريقه في صعوبة، حريصاً على أن تبدوَ نبراته مستنكرة:
ـ ما الذي أوحى لك بهذا الشعور؟!!.
قالت، وهي لا تسمعه:
ـ لم أشعر أنني زوجة! .. لم يُشعرني زوجي أبداً أنني امرأته!
(وبكت):
ـ لم يعطني حقوقي كزوجة له!
ارتاع سمير، وهي تكلمه بهذا الأسلوب، فتأكد أن أعصابها تالفة!
وأضافت، لتخفف من هول ما أصاب سمير:
ـ بل أنا ابنة المهندس الزراعي المشلول، العاطل عن العمل، والأبلة .. ناظرة المدرسة الابتدائية .. أين أنا منهما؟ .. أنا خادمة عند المهندس صالح والدكتورة سناء! .. أتسمعني؟!! .. خادمة الدكتورة والمهندس، بل حتى ابني صار ابنهما، وأنا مربيته.. بل أنا أرخص قطعة أثاث في البيت..
انتفضت واقفة، وهي تقول آمرة:
ـ قم .. انكشفت اللعبة!
قال غير فاهم ما ترمي إليه:
ـ ماذا تقصدين؟
ـ صالح وسناء يتآمران على سقوطي، بإرسالك لي!!
.. ماذا تقول هذه المجنونة من ترهات؟ .. هل نسيت أني في مقام أخيها الأكبر؟ وأني حاميها وحافظها بعد الله هنا؟
.. فاجأه الرد، فصمت.
أضافت:
ـ إنهما يعاملاني كأني خادمة، جئتُ لهما بالولد! .. بل إن سناء تعامل ابني الصغير كأنه ابنها هي، وتلومني على تقصيري معه وإهمالي في تغيير ملابسه .. وصالح ضريني أمس على وجهي أمام الضيوف (زميلات زوجته من جامعة الملك سعود، اللاتي كن في ضيافتها، وكنتُ أنا الخادمة التي أقدم لهن الأكل)، حينما فاض بي الكيل وأنا أراه يُعاملني باحتقار، قلتُ له: إنني زوجتُك يا باشمهندس أيضاً .. ولستُ خادمتك أنت وهي .. وأنتَ لستَ رجلاً مادمت تُعاملني بهذه الطريقة!!
استغرب سمير ما يسمعه.. استدرك قائلاً:
ـ الدكتورة سناء لم تقل لي شيئاً عمّا حدث بالأمس!
كأنها ترفع راية التسليم، ولا تدري أي شيطان يعبث بها، أو يتكلم بصوتها .. قالت في صوت واهن، تخنقه العبرات:
ـ قلت لك يا ابن خالتي .. سأسقط بالتأكيد!! .. إن لم يكن اليوم فغداً.
ضجّت النيرانُ في أعماق «سمير»، وتذكّر أنه بعيد عن زوجته منذ عام ونصف، وأنه يُعاني من الحرمان، ويتشوق لامرأته التي ظلت تطارده في أحلامه منذ شهرين نحو ثلاثة أسابيع متتالية، حتى أخذ تأشيرة السفر إلى مصر، وأنه سيُسافر بعد غد، ويمكث هناك شهرين.
.. واختفت صورتا زميله ورئيسه «المهندس صالح» و«الدكتورة سناء» من أمام عينيه .. وضحك، وهو يقوم، ويُشير لها بيده لتقف .. ليُنقذها من هذا الحر، وهو يقول لها:
ـ الحديقة ليست ملائمة لهذا الكلام.
............
نظر سمير إلى صباح فرآها ممشوقة القد، شاحبة الوجه، زرقاء العينين .. مظهرها ينم عن حزن كبير يحتويها، وشيطانه يُحدثه .. بأنه قدْ جاءت الفرصة الملائمة، وتخيّل أنه يضربها على صدرها الناهد، قائلاً:
ـ إن كنتِ مصممة على السقوط، أليس من الأفضل أن تسقطي معي الآن؟! .. هيا إلى شقتي.
هل هي خيالات الوحدة؟!!
..............
لم تجئ معه زوجته إلى الرياض إلا تسعة أشهر إلا قليلاً.
وجد نفسه يستغفر الله العظيم، ويبتعد عن صباح قليلاً، ويقول لها:
ـ صباح! .. لا بد أن تتكلمي .. نفِّسي عن نفسك .. كلمي المهندس والدكتورة في مشاكلك معهما، وهذه آخر مرة أستمع لك، أو أتدخَّل. لأن ظروف عملي تقتضي مني أن أنتقل إلى فرع الشركة بالمدينة المنورة!!
وقال لها وكأنه والدها:
ـ حلي مشاكلك بنفسك ..
ودون أن يُفكِّر وجد نفسه يقول:
ـ هذه آخر مرة أراك فيها أنت والدكتورة سناء.
وعندما وجدها تحدق في وجهه مستفهمة، وهما يخرجان من باب الحديقة أضاف:
ـ سأذهب بعد يومين إلى كفر الشيخ لرؤية الأسرة في إجازة تمتد شهرين، ولا أريد أن أُغضب خالتي، بأن أقول لها إن ابنتها تُعاني .. أو غير موفقة مع زوجها بالرياض.
جَاهَدَ كيْ يبدو مبتسماً، وهو يفتح باب السيارة، وقال وكأنه يحدث نفسه:
ـ هذه المرة لا بد أن تجيء زوجتي معي إلى المدينة المنورة؛ فقد قالت لي من قبل إنها ستجيء معي للإقامة في المملكة إذا عملت في المدينة أو مكة.
الرياض 9/1/2002م