التخييل التاريخي في الرواية المغربية :
هل هو رد على ما بعد-الحداثة وإعادة الثقة في التاريخ ؟
عثماني الميلود
نتوخي من هذا المقال إثارة الانتباه إلى الطفرة التي تشهدها الرواية المغربية من خلال نسج علاقات متشابكة ومركبة بين الرواية والتاريخ ، في نماذجها الأولى ، ونماذجها المعاصرة ، والتساؤل عن دلالة هذا التشابك ، وهل هو تموقف من القيم المابعد - حداثية ، وسعي إلى إعادة الثقة بالتاريخ المحلي سواء أكان تاريخا موريسكيا أو مغربيا محضا ؟
يمكن اليوم أن نذكر أن عدد الروايات المغربية التي ارتبطت كليا أو جزئيا بالتاريخ ، بالمعنى العام لدى العرب والغربيين ، قد تجاوز العدد عشرة . وأن هذا العدد يعكس اهتماما خاصا وعميقا بالمعرفة التاريخية لأن الذين خاضوا التجربة هم في معظمهم مفكرون ومؤرخون . لهذا ستكون المعرفة التاريخية والصنعة الروائية قطاعان يتلاقحان ويحدثان وقائع نصية وجمالية وثقافية جديرة بالاهتمام والتتبع والتحليل والتأويل . فحينما يختار قطاع كبير من المفكرين خوض تجربة الكتابة الروائية مسلحين بخبراتهم في مجال الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس ، لابد أن يكون لهذا النزوع الجماعي دلالات خاصة وعامة.
إن توظيف مفهوم التخييل التاريخي يعفينا منهجيا من الوقوف عند نصوص عبد الهادي بوطالب (وزير غرناطة ) وآمنة اللوح ( الملكة خناثة) ومحمد أحمد اشماعو ( المعركة الكبرى) لأنها نصوص تندرج في ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"سردية التاريخ" ، كونها تعتمد نسقا أسلوبيا كلاسيكيا حيث الحقيقة التاريخية مقدسة وسابقة عن إرادة السارد . وأما ما نعتبره تخييلا تاريخيا ، فندرج ضمنه كثيرا من نصوص بنسالم حميش ( العلامة - 1997 ، هذا الأندلسي – 2007)، وكثيرا من
نصوص أحمد التوفيق (جارات أبي موسى، 1997 ، حناء شجيرة وقمر، 1998.) وشعيب حليفي( زمن الشاوية ، ط2،2011) وحسن أوريد (الموريسكي ، 2011 ) ومحمد عز الدين التازي(أنا المنسي ،2015) والبشير الدامون (هديل سيدة حرة ،2015 ) وسعيد بنسعيد العلوي( ثورة المريدين ، 2015) وغيرهم ، أمثلة لذلك .
يرجع الفضل في اجتراح المفهوم إلى الناقد العراقي عبد الله إبراهيم الذي اعتبر التخيل التاريخي أجدر أن يحل محل ما اصطلح عليه بالرواية التاريخية لأن التخيل التاريخي سيمكن الكتابة السردية التاريخية من تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها ، ثم إنه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ ويعيد دمجها في هوية سردية جديدة .
تشتغل نصوص التخييل التاريخي ، بالمغرب ، على ثلاثة مجالات ؛ مجال الأعلام التاريخيين ، ومجال الأماكن ، ومجال المآسي الجماعية : مجال الأعلام التاريخيين : ابن خلدون ، ابن تومرت ، ابن سبعين ، ومجال الأماكن : غرناطة ، ومجال المآسي الجماعية : مأساة الموريسكيين واليهود المغاربة .( الموريسكي ، سيدة حرة).
في المجال الأول يمكن أن نعتبر روايات "العلامة "و"أنا الأندلسي" لحميش ، و"ثورة المريدين " لسعيد بنسعيد العلوي أمثلة صالحة لمعرفة كيف ينظر المفكر/المؤرخ إلى الواقعة التاريخية ممثلة في اسم العلم ، وكيف يذريها لينفد من خلال عنصر معين إلى تخييل تاريخي لا يفكر في الماضي فقط بل يتأمل الحاضر . وهذا الأمر هو ما يَحذَرُهُ المؤرخ الحرفي ، أي تجنب الخلط بين الأسئلة والأجوبة ، وعدم الانحياز في التعامل مع المصادر ، وعدم تبني وجهة نظر تاريخية مسبقة . في حين يصبح متاحا لصانع التخييل التاريخي أن يخرم العدة المنهجية والالتزام الأخلاقي كما في حالة حميش و بنسعيد العلوي ؛ يستكشف حميش سيرة ابن خلدون مركزا على الدور المركب الذي اضطلع به الرجل في مرحلة حاسمة من مراحل الشرق الأوسط ( ضعف النسق المملوكي والاجتياح التتاري) ، ملمحا إلى أن المثقف لا يخون ولا يضعف في اللحظات
العصيبة ، دون أن يفقر الجانب الوجداني عند ابن خلدون ووصفه يما يطرأ على كل الناس من حب وضعف ، لكنه يمنحه مزايا الصدق والجرأة والثبات على الموقف ،حينما يذهب لمفاوضة التتار وتجنيب الممالك النهايات الحزينة ، هذا في الوقت الذي فر الحاكم برقوق وحاشيته خوفا وفزعا وجبنا. واضح أن ابن خلدون ، في علاّمة حميش ، ليس ابن خُلدون في كتب التاريخ ، إنه ابن خُلدون المفضي إلى صوت المؤلف والمترجم لنسق قيمي انتشر بين عينة من المثقفين ، قائم على الحجاج مع من يعنيه الأمر لصالح المثقف ، في وقت بدأت فيه السلطة تستغني عنه ، لصالح فضاءات التنشئة والتثقيف موجودة في الملاعب والمهرجانات . ومثل هذا الاستقراء يجد ما يعضده في شخصية ابن سبعين ، حيث يتم عرض شخصيته مترحِّلا من الأندلس إلى المغرب حاملا حقيقته التي عثر عليها ، لكنه سيموت في مكة على إثر علمه بسقوط الدولة العباسية .ابن سبعين هو شخصية متعددة الأوجه والآلام ، عرضها السارد وفق منظورات متعددة ( التاريخ والفلسفة والمعرفة بالتصوف ) . ومن خلال هذا النص الروائي نكتشف أن لكل زمن أندلسه الآيلة للسقوط . وأن في كل عصر حاكما ضالاًّ يتقرب من الأعداء ويعذب شعبه ويطرده ، وهنا تبرز صورة أخرى للمثقف العارف النزيه الكاره لأحوال زمانه الراغب في إنهاء الليل وتخليص الناس من عذابهم الأبدي . شخصية ابن خلدون شخصية إشكالية ، في حين يبدو ابن سبعين مثالا حيا للشخصية التراجيدية التي ترى ولا تدري ، تتعذب وليس لها من سبيل للخلاص .
أما في ثورة المريدين لسعيد بنسعيد العلوي ، فالرهان منصب على إبراز فكرة الانتصار والانتظار ، في سيرة ابن تومرت ، وعدم اكتمال ثورة 25 يناير المصرية . عمليا يعمد المؤلف إلى كتاب أبي بكر البيدق لتتبع وقائع حياة ابن تومرت ، وكشف ذكائه واستراتيجيته لبناء فكره وتقوية عزيمة مريديه ( عبد المومن الكومي مثلا) والوصول بها إلى بر الأمان ، ثم الاختفاء . يتم التشكيك في رواية البيدق الأولى ، ويتم التلميح إلى أن سيرة المهدي موجودة في كتاب تخيله المؤلف للبيدق يتضمن حقيقة المهدي وسريرته. لا يخفي المؤلف براعته في عرض الوثائق التاريخية ومناقشتها
ومساءلتها إلى أن تبوح ، وتمحيصها إلى أن تنجلي الحقيقة من أضدادها ، ففي مقابل التشكك في الماضي ، يقف الحاضر ( في شخص عبد المولى اليموري حقيقيا ، دافئا ومقنعا ) شامخا ، وكأننا أمام معادلة مفادها أن الواقعة التاريخية لا ينظر إليها في حد ذاتها ، وليست هي الجوهر ، وأن أسطورة كشف الماضي من براثن الفوضى التي يسلطها الحاضر على الماضي ، هي موضوعة على محك التحليل والنقد . كما أن التاريخ الحَرْفي كما كتبه أصحاب الوضعية – الواقعية الذين آمنوا ، وما يزالون يؤمنون ، بإمكانية الوصول إلى معرفة أحداث الماضي معرفة موضوعية ، أصبح مشكوكا فيه ، كونَ المعرفة التاريخية نسبيةٌ لها علاقة بحاضر المؤرخين المتغير دوما ، في حين علاقتها بالماضي غير مؤكدة . هذا تيار هوائي بارد لا يشعر به سوى أهل الإختصاص ( خاصة فلاسفة التاريخ) ، هو ما يفسر ، في جانب منه ، هذا الميل لدى الروائيين المغاربة ، وفق أمثلتنا ، إلى التخييل التاريخي ، فمادام التاريخ واقعة سردية ، ومادامت المعرفة التاريخية نسبية ، هنا يتحرك المؤرخ( الروائي) نحو سردية جديدة قد لا توفر الحرفة التقليدية للمؤرخ إمكان وجودها . ولعل عودة السردية من التاريخ إلى الرواية ، أو قدرة السرد الروائي على التفوق على السرد التاريخي إنما هو حصيلة تغير جوهري حصل في أساليب علماء الإجتماع والثقافة في منتوجهم عن طريق السرد . ولعل ميل سعيد بنسعيد العلوي إلى التخييل التاريخي والإعلاء من السردية ( الروائية) يعكس وعيا جديدا لدى المؤرخين والفلاسفة وعلماء الإجتماع وغيرهم بأهمية السردية والنكوص عن أساليب التاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي اللذين أغرما كثيرا وأفرطا في القياسات الكمية وتحليلها ( شأن مدرسة الحوليات ومؤرخي الكيلومترية الاقتصادية) ، وفي المقابل نجد لدى بنسعيد العلوي التمسك روائيا بقواعد الكتابة التاريخية القائمة على الملاحظة والتجربة والبديهة والذوق . ومن هنا نجد أن هذه السردية المتضمنة في التخييل التاريخي المغربي تهتم بسردية الأعلام ( ابن خلدون وابن سبعين وابن تومرت...). ونحن نعتقد أن هذا الإختيار ، عند حميش وبنسعيد ، جاء نتيجة تقدير خاص لجمهور القراء العريض ، وليس إلى جمهور المتخصصين الضيق . وحسب هذا المنظور أيضا ، نجد عناية فائقة بالحياة ، حياة الناس ، وليس بحياة الأرشيف . ومن مظاهر الحياة المعروضة علينا تخييليا ، صورة الذات ساردة أو مسرودة وهي تسرد علينا رحلتها عبر الأمكنة ( بجاية ، القاهرة ،تنميل ،إسبانيا، أمريكا...) ، ذاتٌ تُعنى كثيرا بذاتها بطريقة غير مرئية ، ذاتٌ تقدم السارد والمسرود في تفاعلهما مع المصير والصيرورة ، وحل الإشكاليات وعقدها وإعادة ترتيبها ، مع ما يصاحب ذلك من استبصارات جديدة بخصوص الفرد والفكرة والموت والحياة والتاريخ والانتصار والانتظار . وإذا كان بنسعيد قد غذَّى روح عدم وصول النهايات إلى مآلاتها ، فلكي يطلق مباشرة فهماً جديدا للحقيقة الشخصية الخاصة بابن تومرت والحقيقة التاريخية الاجتماعية ( ثورة 25 يناير بمصر ) ، وهو فهْمٌ يساعد الذات على التعالي عن الخداع ، ويمكنُّها من عدم الوقوع في فخ السلبي . في الحقيقة ، ندرك أن المعاناة ( في حالة ابن تومرت ، وثورة مصر) هي واحدة من أساليب دعم القدرات التركيبية للذات (ساردة /مسرودة) . ذاتُ بنسعيد التخييلية ، ذاتُ قدرات لانهائية ، تجمع بين السفر والرومانسية ، وتجعلنا ندرك أن التعلم قرين التجربة ، وان التجربة هي التي رممت ما حطمه الطغيان والتفسخ ( نهاية الدولة المرابطية ونهاية حكم حسني مبارك ).إن الحقيقة ليست نقيض الخطأ ، كما يقول نيتشه ، بل هي وضع الأخطاء في علاقة مع بعضها البعض . والذات ، في "ثورة المريدين"، تسكنها رغبات صوفية ، ولهذا تميل إلى توليد القصص ، وتزيين الكذب ( الفني) لضرورة حياتية . فخلف كل رحلة ذات تلاحقها أسباب السقوط والخطأ ، بكيفية اطِّرادية.
وننهي مقالتنا بالتعرض للمجال الثالث i ؛وفيه نقف على روايتين مغربيتين لحسن أوريد والبشير الدامون بخصوص كيفية تمثيل صورة الموريسكي ومفاهيمها والمعرفة المرتبطة بها.
لا يتوخي حسن أوريد من روايته استعادة التراجيديا الموريسكية حتى وإن كان بطل الرواية ( أحمد شهاب الدين أفوقاي ) قد فرَّ من محاكم التفتيش وسياسة التطهير الديني التي باشرتها الكنيسة وواحدا ممن خلدوا الحدث المؤلم في
مؤلفه الشهير " ناصر الدين على القوم الكافرين". تبقى الواقعة التاريخية ، في مؤلف حسن أوريد ، مجرد تعلة لمحاولة للإنصاف والاقتصاص من ظروف حالت دون أن يكون المكون المغربي-الأمازيغي ( العقلاني ، كذا) في وضع يسمح له بإبراز عقلانيته وأصالته. المؤلِّف يميل أحيانا إلى التصريح بموقفه من الواقعة التاريخية لكنه ، على غير عادة المؤرخ الحرفي ، يمزج الأسئلة بالأجوبة ، ويتأول الماضي لصالح الحاضر، وهو ما نجده جليا في محاكمة شخصية الشاوي . فالموريسكي هو مثال حي لمن أضطهد في بلده وغرب في لغته وجلده ولسانه ، وهنا تنشأ معادلة ينشئها التخييل والتأويل إنشاء ؛ مأساة الموريسكي هي نفسها مأساة الأمازيغي ، من غير أن يصرح السارد إن كان سبب مأساة الموريسكي( بإسبانيا) هو نفسه سبب مأساة الأمازيغي ( بالمغرب).ولكن ما لا يقوله السارد تقوله الاستعارات والترميزات .
جاء في الرواية (ص.78) في حوار دار بين الشاوي (المغربي العربي وكاتب الملك السعدي) وأنتاني ( المغربي الأمازيغي ):
"- أما زلت أيها الأمازيغي ترفض اعتمار الطربوش رغم أنها تعليمات مولانا السلطان ؟ - اعتمر أجدادي دوما العمامة. الأتراك ليسوا أجدادي، رد أنتاني. - و متى كان أجدادك مرجعا؟ّ - و متى كان أجدادك كذلك، إن كنت تعرفهم؟ ..... - إنكم خونة. - ليست هناك خيانة أكبر من انتزاع الأرض من مالكيها، و طمس ذاكرتهم بالأكاذيب و الأراجيف. "
ويتنامى التخييل/ التـأويل في سلم الحجاج درجاتٍ ، ولا يكتفي المؤرخ/ المتخيل بهذا الجدل ، وإنما يبسط رأيا صريحا أمامنا ، موقفا صريحا من نظام الحكم ، في عهد السعديين ،وعما شهدته البلاد من قلاقل واضطرابات سياسية . يتوجه النقد لبذور النظام المخزني وقواعده وأسسه إشارة إلى أن هذا النظام أضحى طريقة في الحكم يعكس أشكال التراتبية والريع والولاء والترهيب والبطش.
يعدد حسن أوريد من صور المثقف ( العصري) ، ويمنحه حرية السفر والترحل والاطلاع والمقارنة ، على غرار رحلات مثقفين مغاربة و مشارقة كثر سافروا ليبصروا الفروق ويدونوها ويُطلعوا من له الغلبة على مدلولاتها . صوت الحداثة في مقابل التقليدانية ، وصوت العقلانية في مقابل الاعتباطية . هل نحن بصدد إنشاء أنثروبولوجيا مضادة ؟ وهل بثورة فكرية وانتفاضة من حوزة المخزن تحصل المعجزات ؟ لا شك أن حسن أوريد رمى بلهب إشكالي ، مفاده أن الحاضر الذي لا يصحح الماضي ولا يتصالح معه ( على غرار فعل الإنصاف والمصالحة) ،ولا يمكن إلا أن تستمر فيه الآلام والأحزان والتقيحات .كما أن المثقف بدل أن يعلن بالصوت المسموع ما يعتمل في داخله ، يُجبَر ، في فضاء قد تكون فيه الحرية مقيدة ، والمحيط موبوءا والعلاقات ملتبسة ، يجبر على الترميز والإيحاء والتخييل التاريخي قصد إبلاغ الرسائل إلى العناوين الصحيحة.
واضح مما سبق أن حسن أوريد مثقفا يقع على النقيض من صورة حميش مثقفا . ووجه التناقض لا يلغي قيمة هذا وذاك ، ولكن يفسح لنا صورة عن التعددية الفكرية والثقافية التي تميز رؤية أوريد ورؤية حميش . وجه الاختلاف أن التخييل التاريخي ليس من مهامه فقط طمأنة السلطة ، بل السعي إلى مزاحمتها في مجالها ، وإحداث التأويلات المناسبة ، والتعديلات الضرورية ، استمرارا لما شهدته فلسفة التاريخ مع ظهور "التاريخ الجديد" الذي بشر به مؤرخو الحوليات ومؤرخو الكيلومترية ، حيث تم التركيز على التحليل والتفسير ، والابتعاد عن السرد التاريخي الكلاسيكي كما رسمه رانكي، ولكن مع المزج بين الجانب الوصفي والجانب الفينمونولوجي ( أي المزج بين وصف الكتابة التاريخية ووصف ما يفكر به المؤرخ ).فكل من حميش وأوريد لاشك متأثران بهذه الأجواء الفلسفية والإبستمولوجية ،
ومن السهل أن تجد هذه الأمور طريقها إلى التخييل التاريخي الذي يسمح بإقحام الأهواء والاستيهامات دون أن تتأثر قيمة الواقعة التاريخية متمثَّلةً ومتخيَّلةً ، بالإضافة إلى حضور الميتاناصات والميطا تخييل .
ما يميز رواية البشير الدامون بطلةُ روايته أولا ، ودور النساء في نسج الحكاية وتطويرها ، وهو أمر في غاية الجدية ، لأنه يصحح واحدة من المغالطات الذكورية ، بالغرب الإسلامي ، التي أسطرت قوة الرجل وذكاءه ( منذ طارق بن زياد ، وصقر قريش ، ويوسف بن تاشفين حتى سقوط آخر أمير أندلسي ، ونهاية حكم المسلمين لبلاد إسبانيا )، فبهذا التغيير في الأدوار وتبريز دور المرأة ممثلة في السيدة الحرة تكتسب الرواية بعدا ثقافيا مهما ، وتسقط القناع عن مجتمع ذكوري ( بتطوان) لطالما أغمط دور المرأة ، وحتى وإن أشار إليها لا يمحضها الدور الذي قامت به أساسا ، وهنا تكمن مفارقة التخييل مقارنة بالتاريخ وسلطة الواقع . زد على ذلك أن التبئير على البطولة النسائية هو إشارة إلى الدور المنوط بسلطة الهوية السردية في ترسيخ قيم الذاتية والعينية ، فالسارد يرفع من دياليكتيك الذاتية والعينية ، مستقصيا أحوال ذات السيدة الحرة ، مركزا على هذه الذات عن طريق السرد ، موفرا نوعا من الترابط بين الأحداث التي عاشتها السيدة الحرة وإطارها الزمني ، وهو ما يسمح لنا كقراء بأن ندمج في صيرورة الزمن ما كان يبدو متفرقا في كتب التاريخ المحلي التطواني ليصبح نظام الهوية-العينية نظاما لتنوع مصادر التاريخ وتغيراته وعدم استقراره .على أن مما زاد من حضور هذا الأفهوم وجود حبكة محكمة نراها في انتقال السارد من سرد أحداث إلى سرد شخصيات السرد الروائي .وإذا كانت سردية التاريخ ( المحلي والوطني) قد حالت دون بروز البعد التراجيدي في حياة السيدة الحرة ، فإن السردية التخييلية تبرز ذلك ولا تكتفي بتفسير الأمور كما قد يفعل معظم المؤرخين ، وإنما سعت سعيا ملحوظا إلى التأويل حيث يصبح ماضي السيدة الحرة ، وبقية النساء ، حاضرا ، إذ لا قيمة للتذكر ما لم يؤثر في صورة الحاضر ،فلا يبقى الماضيى موضوعا للسرد ، ولا يكون الحاضر مجرد متفرج .
يسعفنا التخييل التاريخي ، في رواية " هذيل سيدة الحرة" على تسجيل ملاحظات تؤكد ما أشرنا إليه في العنوان ؛ أولاها ،أن الجمل السردية ، في هذا النص ، تطابق ما عرف بالسردية الجزيئية ( مع مورتون ووايت ودانتو) والتي تقوم على صياغة خاصة للجمل السردية تبين الانتقال من حالة أولية معينة ( للسيدة الحرة) إلى حالة لاحقة أخرى ، بحيث يكون وصف الحدث المعبر عن سبب الانتقال مندمجا كلية في السردية ، ومن دون ذكره بشكل منفرد . وثانيها ، أن الجمل السردية تصف حدثا وقع في زمن سابق ، بحيث يضم الوصف سبب حدوثه . تصل الجمل السردية ، عند البشير الدامون ، إلى نهاية تقفل ما ابتدأت به ، ثم تعود إلى استعمال جمل سردية جديدة تبدأ بوصف حدث جديد لاحق كان سببه الحدث المنتهي والمقفل . هذا على الرغم من أن السارد يفاجئنا مفاجآت شائقة ، هي ما يشدنا إلى استكمال القراءة والوصول إلى حالة الإقفال المتوقعة من السردية . فبالجمع بين السردية الجزيئية وسردية المفاجآت لا تكون السببية التاريخية هي الهدف ، بل نكتشفها فقط من خلال العرض السردي . ثالثها ، أن السارد يعتبر الأحداث التاريخية مجرد مواد خام يستعملها لبناء سردية لا للتضييق على تخييله التاريخي ، أي أن بناء السردية هو الذي يحدد المواد الخام لا العكس . ومن الممكن أن يتذكر القارئ جهود رولان بارث وفوكو ودريدا وغيرهم في قضية الانفصال بين السرد أو العمل الأدبي المنتهي والسارد/المؤلف في باب موت المؤلف .
من الملاحظ أن التخييل التاريخي، في النماذج التي جئنا عليها ، أرسى تفاعلا بين صور الماضي والحاضر ، وأعطى للسارد/المؤلف إمكان الاختفاء وراء الواقعة التاريخية واختيار المواد الملائمة له ، لكن مع قصدية البروز في الأجوبة ، وتمثيل العصر ، وبعث الرسائل إلى من يهمه الأمر . كل ذلك في إطار تخييلي قد يقدم على تآويل تصب في مصلحة السلطة كما قد تصب في غير صالحها . ومن هنا يتأكد لنا أن التخييل التاريخي ، في الرواية المغربية ، اضطلع بوظيفتين مزدوجتين ، إن لم تكونا وجهين لعملة واحدة ، الرد على تيارات ما بعد الحداثة ، وإعادة الثقة بالتاريخ ، ليس كمواد
مسرودة ، ولكن كرؤية سردية واعية بدورها ، متأثرة بأسئلة الحاضر ، منتبهة إلى عمق تأثير التاريخ على الحاضر ، فكل سردية تاريخية أو تخييلية منفلتة قد تحيي أوجاعا وآلاما ، وتربك سؤال التقدم والنسق والمواطنة.