إن قراءة مجموعة قصصية تستفز بداخلنا، دائما، سؤالاً نقديّاً يفرض نفسه بإلحاح: ما الذي يجمع بين نصوص المجموعة القصصية ويبرِّر جمعَها في أضمومة قصصية واحدة، تحت عنوان واحد؟ فقد يكون الجامع موضوعاً مشتركاً، تتناول القِصصُ منه جوانبَ وأبعاداً مختلفة، وقد يكون سمةً شكليةً، أو جوّاً نفسياً، وقد يكون تشغيلاً لغويّاً مخصوصاً، أو غير هذا وذاك من العوامل. والبحث عن السمة المشتركة بين قصص المجموعة ليس ترفاً نقدياً أو إسقاطاً متهافتاً، بل مفتاحاً يشرع أبواب التلقي على آفاق التأويل والتفكير والتأمل، ويرتقي بفعل التلقي ذاته إلى دينامية الإبداع والتخييل والتصوير.
شرعتُ إذن في قراءة مجموعة الكاتب المغربي محمد أكويندي الموسومةِ بـ«سرير الدهشة» فاستأثرت باهتمامي سمةٌ قد تبدو، في ظاهرها، شكليةً، إلا أن أصولها وامتداداتها تتغلغل في طبيعة رؤية الكاتب للحياة، واختياراته الفنية والجمالية، واستراتيجياته في التصوير والتمثيل. إن جميع قصص المجموعة تقوم على سمة تشظي بنية الحدث القصصي، حيث يتشكل كل نص من جملة «شظايا» أو أحداث صغرى، إن شئنا التوضيح، تنتقل بالقارئ، بسرعة خاطفة، بين طبقات الوعي لدى السارد، وتخترق به الزمان والمكان في كل اتجاه وصوب، لا يوحد بينها سوى وعي السارد المتأمل أو الراصد أو الملاحظ.
ترتبط إذن سمة التشظي ارتباطاً وثيقاً بطبيعة السارد/البطل ووظيفتِه في صنع الحدث القصصي وتصويره. وأول ما يلاحَظُ على طبيعة السارد في المجموعة هيمنةُ ضمير المتكلم و»الرؤيةِ مع» على جلِّ النصوص (سبعة من مجموع تسعة نصوص). ولا تخرج وظيفة السارد/البطل عن ملاحظة الحدث أو الأحداث ورصدها والانفعال بها من دون امتلاك القدرة على الفعل والتأثير والتغيير. إنه شلل يكاد يكون تامّاً يقترب من عجز المستمني وانغلاقه على ذاته؛ ففي قصة «المزواة»، (والعنوان هنا ذو دلالة واضحة)، يحضر السارد البطل باعتباره مجرد «آلة رصد» بصريةٍ تلهث وراء مظاهر الفتنة واللذة الأنثوية من دون أي قدرة على الفعل أو الحركة، بل حتى القول؛ ينفعل وينقل إلينا انفعالاته الداخلية العاجزة: «في حركة بطيئة وخجولة حشرت ساقها بين رجليَّ الممدودتين. قبالتي كانت تجلس. لأن جار سفرنا كان يحجز المقعد الرابع لصديقه، الذي تمنيتُ في قرارة نفسي ألا يلتحق به، لا لشيء إلا أن يبقى وضعُنا ثلاثياً يشكل خطوط التلاقي كمثلث، أو زاويةٍ للتعاطف، الذي صنعته اللحظة: امرأة عيناء، ورجل يترقب أنيسه، وأنا ..أنا ..المحموم بحرارة … لكَ أن تدرك حرارةَ جسدها المحموم المشتعل بجذوة الأنوثة المتقدة، ها هي تسري، وتلهب ذكرياتي». لنلاحظْ كيف ينسب السارد/البطل الفعل في هذه الصورة القصصية تارة للمرأة (حشرت ساقها) وتارة أخرى لجاره في السفر (كان يحجز المقعد الرابع…)، أما هو فيكتفي بـ»اللذة البصرية» والتمني والانكفاء على الذات عبر ركوب الذكريات. ولعل الصورة الأكثر تمثيلاً لطبيعة السارد/البطل ووظيفته تتجلى في قصة «سرير الدهشة»؛ فمنذ المشهد الأول تطالعنا صورة السارد الغريق الملقى على الشاطئ بين أيدي الناس من دون حول أو قوة سوى القدرة على رصد أفعال المحيطين به وأقوالهم:
«أطفو فوق سطح الماء، أبدو مثل حوت كبير، تتقاذفني الأمواج المتلاطمة بآلاف الأذرع… أطفو. أغوص. الأمواج العاتية تلاعبني يميناً، شمالاً. على شط البحر عند خطه الأبيض بالزبد والرغوة، طوح بالحوت الآدمي هناك، بالكاد أميِّز غابة من السيقان المشعرة، ربلات السيقان بضة، وأخرى مشعرة. تطوع أحدهم، ألصق فمه بفمي، ونفخ أنفاسه في صدري، أحِسُّ يديه تدعكان قلبي [...]».
إن السارد/البطل في هذه القصة يتشبه بذلك الحوت الذي ينتهي به المطاف ملقى على رمال الساحل في شبه انتحار أو استسلام للموت، والموت هنا عجز عن الفعل؛ فجُلُّ أفعال النص تضطلع بها شخصيات أخرى، أما السارد/البطل فمُنْفَعِلٌ ومفعول به في غالب الأحيان (تسعفك، تسندك، تسرع يدها، تضحك، ترجوني، تسحبني، تشهق…)، لم يبق له سوى التذكرِ والبكاء: «تتيبَّسُ وريقاتُ وردتك، وترشها بالدمع الساخن لعل ألقها، أو بعضاً منه يضيء أفول ذاك البريق. تشهق كلما اكتويتَ بحرق الدمع… تسرع يدها لتجفف بحنو ما علق بصدرك… تطفر عيناك بالدمع… ويمتزج الماء بالماء». الغرق والاستسلام للغرق، ذاك ما يلخص وعيَ السارد ورؤيتَه للحياة؛ إنها أقصى درجات السلبية والعجز. ولعل الصورة الأخيرة في هذه القصة لا تحتاج إلى تعليق ما دامت تصرح ببعدها التمثيلي والرمزي بشكل واضح يكاد يبلغ حد المباشرة: «أسمع خرير المويجات المتكسرة على جسدي، أحسه يغور… يغور مستسلماً لامتصاص الرمال المبللة… والماء يطفو فوقي.. آه، كلما توقفتُ أمام المرآة تنتابني تلك الحالةُ… حالةُ الغرق». إن عجز السارد/البطل يظهر أيضاً في مستوى السرد ذاته، حيث يتشظى الحدث لأن السارد لا يأخذ بزمام السرد والحكي، بل يكتفي باقتفاء ما يمر بوعيه من صورٍ، سواء كان مصدرها العالم الخارجي (أفعال الآخرين وأقوالهم) أو انبثقت من أعماق ذاته (مشاعر ذكريات..إلخ). وتبلغ هذه الظاهرة ذروتها عندما تنوب الصور والانزياحات اللغوية عن السارد في خلق الأحداث وتشكيلها؛ ففي قصة «أبواب الخفاء» يقف المناضل السابق مهزوماً، مستسلماً، وقد قضَّى نصف عمره في المعتقلات.. حتى حضورُ صوت أبي ذر الغفاري المعاتب والمحفز لا يفلح سوى في اقتلاع تبرير واهن مستسلم: «انبثق من الأرض يعتمر عمامةً، شاهراً سيفه في وجهي.
- لستُ العراء يا معتوه، أنا أبو ذر الغفاري، عجبتُ لك…عجبتُ لك.
- والله لقد فعلتُ..ثم ..فثمّ..وثم قضيتُ».
إن الساردَ/البطلَ/المناضلَ السابقَ قد قاوم في الماضي، وكافح من أجل التغيير، وأدى ثمن مواقفه في معتقلات السلطة، لكنه الآن مستسلم مهزوم فَقَدَ القدرةَ والإرادة، والآخر من كل ذلك فقد الأمل في الغد. وأمام عجز السارد/البطل تتوالد اللغة بواسطة آليات الانزياح والتداعي لترسم نهاية السارد وقد انفصل عن ذاته متأملاً مصيره في مشهد جنائزي:
«توالت نقطُ الطلاء في السقوط، والترابُ يلفها لفّاً، ويكوِّرها كويرات حتى صارت حشداً من الناس يشيعون جنازة رجلٍ مردِّدين: (على بابك واقفين.. يا أرحم الراحمين) يزفر قبرك شاهقاً بأسى: هي الدنيا بابان: باب الرحم وباب القبر. وكلما تعبتَ تتربعُ فوق حجر امرأةٍ كقط مقرور، تَهُشُّكَ كلما همَّت إلى زينتها، والآن كما نراك الآن، ميِّتاً يُغلقُ ثَغر مؤخرتك بابٌ هو ندف من الصوف».
وفي قصة «النافذة» نجد السارد نفسَهُ يحدد وضعيته بواسطة صورة واضحةِ الدلالة على عجزه وعدم انخراطه في الفعل الحياتي والمجتمعي حيث يشغل دائماً دورَ المتفرج المأزوم الذي يكتفي باجترار ماضيه وذكرياته. يقول: «ومضت في ذهني فكرةٌ.. فكرةُ اختياري دائماً الجلوسَ قرب النافذة [يقصد نافذةَ القطار]…دحرجةُ عجلات القطار..ها هو يسير ببطء..يرتفع إيقاعه.. ارتجاجُ المقصورات.. القطارُ يجري..كأنه يجري إلى الوراء.. بنايةُ المحطة.. قامةُ الجابي المديدةُ.. مقاعدُ الانتظار.. ساعةُ البرج.. كلها إلى الوراء.. ألهذا الإحساس أفضل الجلوسَ قرب النافذة حيث كلُّ شيء يجري إلى الخلف.. وأنا إلى الأمام؟ أم الأمورُ أشبهُ بحياة الإنسان، هو إلى الأمامِ، وأحداثُهُ إلى الخلف..».
إذن يفضل السارد دائماً الجلوسَ خلف النافذة يتابع ويرصد لكن من دون مشاركة حقيقية في الفعل. لكن ما يثير الاهتمام هنا هو ذاك التبريرُ المقلوبُ الذي يفسر به الساردُ ميلَهُ هذا؛ فالجلوس خلف نافذة القطار يمنحه الشعورَ بأن كل شيء «يجري إلى الخلف» بينما يتقدم هو نحو الأمام. فهذا التبريرُ المغلوطُ ليس سوى تعويضٍ عن واقع حال السارد الذي يقف مشدوداً إلى الماضي، عاجزاً عن الانخراط في الحاضر الذي هو الطريق الوحيد نحو المستقبل. وهكذا نجد الساردَ ينكص مباشرة بعد ذلك التقديم أو التشبيه إلى الماضي بينما القطار يسير نحو الأمام: «إلى الخلف أقفُ بسروالٍ قصيرٍ، أرسم على وجه اللوح الخشبي الصقيل وجهَ امرأةٍ.. تطلُّ عليَّ من فوق، تنتزع مني اللوح.. وتضربني على أم رأسي ضرباً مازحاً، فتكسر اللوحةَ..».
وفي قصة «قرأتُ كفَّها» نجد السارد/البطل مسافراً في جنوب المغرب في سيارة من سيارات النقل الجماعي التي يُحشَرُ فيها البدويون حشراً، ووسط كل ذلك البؤس ينشغل السارد، كعادته، بقراءة كفِّ بدوية هَدَّها التعبُ والبؤسُ فتراخت قبضة يدها وانبسط كفها، فلا يقرأ سوى معالمِ الرغبة المكبوتةِ والحلمِ المستحيل. أما آخر مقطع في هذه القصة فيؤكد صورة السارد/البطل الصامتِ، المتفرِّجِ، العاجزِ حتى عن كتابةِ سيرةِ البؤس الذي يكتنف الحياةَ من حوله: «ساد صمتٌ ثقيل…حيث تجتاز السيارةُ رحاباً مغطاةً بالصخور المطفأةِ كبشرة الأرض المتشققة..تجتذب يجتذب بصري صليلُ أساورها الفضية، وأترك للجبل حريةَ مراقبة المشهد..وأتفرج على أفق الصحراء الذي يغشيه ظلامُ الغروب..ربما الوحيد الذي يستطيع أن يكتب سيرةَ الرحلة الفاجعةِ ويبوحَ بسرها.».
وهكذا نستطيع أن نستنتج في نهاية هذه المقاربة أن هيمنةَ أسلوب تشظي الحدث القصصي وتفتيتهِ إلى لحظات متداخلة ومتراكبة في هذه المجموعة ليس تجريباً تقنياً صرفاً، بل نتيجةً منطقيةً من المنظور الفني فرضتها صورةُ السارد/البطل ووظيفتُه، ويسوِّغها اجتماعياً حياد المثقف العربي وتحوله إلى مجرد متفرج يتابع النكسات والتحولات السلبية الخطيرة التي تمر منها مجتمعاتنا، عاجزاً، من دون قدرة على الفعل والتغيير.
منشورات أجراس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2008.
كاتب مغربي
مصطفى الورياغلي العبدلاوي
عن القدس العربي