"الهوامش المنسية" يسائل المسكوت عنه من أجل الوصول إلى الحقيقة
الأحداث الصغيرة غالباً ما تكون هي الفاعلة في الوقائع / الداعي إلى التغيير هو في جوهر الأمر متفائل
حوار: خالد أبجيك
لماذا اخترت تسمية إصدارك الأول بـ "الهوامش المنسية"؟
الهامش، الصمت، البياض، المضمر، المسكوت عنه، اللامفكر فيه ... كلها، وبقليل من التحفظ، مفاهيم قد نشير بها إلى تلك الأشياء التي لا نقولها ونريدها أن تبقى مخفية ومستترة بالرغم من أنها فاعلة فينا وفي الآخر. قد لا نصرح بها خوفا أو خجلا أو قلقا أو شكا... المهم أننا نكبتها ونهمشها ونزيحها إلى مناطق الظل والأسرار رغم أهميتها.
ويُستخدم مصطلح الهامش للدلالة على ذلك الفراغ الذي يحيط بالنص أو الورقة مثلا، كما يستعمل أيضا لكتابة الحواشي أو المراجع والإحالات في النصوص، كما يُقال مثلا "وقع كذا وكذا على هامش لقاء معين" للإشارة إلى أن الحدث غير مبرمج وطارئ وغير ذي أهمية، وأحياناً يستعمل لفظ "هامشي" للسخرية مثلا من شخص ما، والهوامش من الناحية السياسية والاجتماعية، هي مجموعة من الفئات المقصية تعيش منبوذة ومبعدة من السلطة والثروة.
"الهامشي" هنا قد يكون جغرافيا فيحيلنا على مناطق ومرافق مبعدة من اهتمامات وتفكير "المركز"، وإن فكر فيها فيكون ذلك من منظور فوقي استعلائي. كما قد يكون "الهامشي" هامشا اجتماعيا أو ثقافيا أو نفسيا فيحيلنا على الموضوعات والنظم التي لا نرغب في مساءلتها ووضعها تحت مجهر الشك والسؤال.
من هذا المنطلق اخترت لهذا الكتاب عنوان "الهوامش المنسية" لأنه يضم مقالات تسائل بعض تلك الهوامش المسكوت عنها في خطاباتنا وسلوكياتنا.
الكتاب وفي لمنهج التفكيك والحفر في محاولة لاستنطاق البياضات والثغرات في البنيات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وتقويض القوالب الأرتدكسية الجاهزة... وفي لمفهوم المسكوت عنه أو اللامفكر فيه بلغة محمد أركون. فقد أدركت أنه في سبيل الوصول إلى الحقائق ليس من الضروي أن نتوجه إلى الأشياء التي يراد لها أن تكون مركزا، فالحقائق قد تكون على هامش الواقع إن استلهمنا تعبير ميشل فوكو، نشير هنا مثلا إلى "طمس العديد من الحقائق التاريخية" بسبب طغيان التركيز على الأحداث التي تبدو أساسية بفعل بروزها وحضورها إعلاميا، فخلافا لهذا النهج يجب أن نعمد إلى إبراز الأحداث الصغيرة والتافهة التي تمر في الظل لكن غالبا ما تكون هي الفاعلة في الوقائع. إذ ينبغي التعامل مع النصوص والمواقف والنظم والأنساق لا من خلال ما تقوله وما تصرح به، بل من خلال ما تسكت عنه ولا تقوله وتحاول إخفاءه.
إن "الهوامش المنسية" كتاب من الهامش للمساهمة في إعادة الاعتبار للهامش الذي ظل لا مفكرا فيه، ومسكوتا عنه، وللمساهمة في إبراز أهميته التي لا تَقِلّ عن أهمية المركز، بل إن الهامش يلعب دورا حاسما في إحداث تغييرات دراماتيكية في بنيات المركز ومؤسساته. هي قضايا مهمشة ومنسية لكنها كالمكبوتات اللاشعورية تفعل فعلها في صمت، ولها أيضا فترات ومساحات للعودة.
إن الكتاب في واقع الأمر محاولة لإسقاط مناهج العلوم الإنسانية على "القاع المجتمعي"، أو "المجتمع الغميس"، أو العميق، ليس بلغة التنميق و"التزويق" بل بلغة فاضحة كاشفة، أليست مهمة السوسيولوجيا هي الفضح على حد تعبير بيير بورديو؟
فبالنسبة لي، كواحد من أبناء الهامش، الكتابة والقراءة ليس كهواية و"بريستيج"، بل كواجب وضرورة أخلاقية، وقد تصبح فعلا نضاليا كي لا يظل "الهامش" هامشا، وأردت في هذا الكتاب أن تصبح الكتابة احتفاء بالهامشي والمقصي كي تنتفي تلك الحواجز ويصبح الهامش مركزا والمركز هامشا.
في مقدمتك قلت عن المقالات الموجودة في الكتاب "بقدر ما يظهر تباعدها من حيث الموضوع بذات القدر تتقارب"، فكيف ذلك؟
جل المقالات والدراسات الواردة في الكتاب نشرت متفرقة في الزمان على مدونتي الإلكترونية التي سميتها "الهوامش المنسية"، وكذا في العديد من المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات الورقية تفاعلا مع أحداث ووقائع معيشة. فهناك مقالات مثل "بين التطرف والانتماء إلى الإنسان"، و"أبجديات ثقافة الاختلاف"، و"عيد الأضحى عقدة أوديب أم عقدة إسماعيل"، و"تقديس الإهانة وإهانة المقدس"، و"مملكة دبشليم أو الإنسان من وجهة نظر حشرة" ... هذه المقالات مثلا تلتقي حول تيمة "طابو الدين"، ومقالات أخرى حول الهيمنة، والشرعية، والحراك الاحتجاجي، وثورة تونس، والعدالة الاجتماعية، كـ "الفينيق التونسي وثمن الثورات"، و"البورديل السياسي"، و"المغرب في سوق النخاسة" ... وهي موضوعات مرتبطة بتيمة "طابو السياسة"، ومقالات أخرى عن البكارة والعناية بالجسد... خاصة الدراسة السوسيولوجية "ليالي الدخلة البحث عن دماء العذرية أم عن انتصارات وهمية"، وكذا دراسة أخرى معنونة بـ "الطقوس الجديدة للأجساد في المجتمع المغربي"، إضافة إلى "مافيا عيشة قنديشة"، و"صيادو النعام أو الباحثون عن الحريم" وهي طبعا كلها مرتبطة بـ "طابو الجنس".
كما تلاحظ، بالرغم من أن هذه المقالات متمايزة من حيث المناولة لكن قد نجد أنها كلها تلتقي عند هم تكسير جدار الصمت في الهامش وعبر الهامش.
ألا ترى أن مقالاتك في غالبيتها صادمة، تبعت اليأس في النفس عوض التفاؤل؟ وأنها من ناحية تدعو إلى التمرد على الواقع، فتصبح بذلك ثورية؟
بالنسبة لما إذا كانت صادمة أم لا، فهذا يعود إلى طبيعة المتلقي، فالمتلقي الذي تعود الكتابات ذات المحسنات البلاغية والاستعارة والحجب والإخفاء واللغة "المنافقة" سيجده صادما. فمثلا في تحليلي للمشهد السياسي المغربي لم أجد وصفا للمشهد أكثر تعبيرا من "البورديل السياسي" وفصلت ذلك في مقال "السياسي من نظرية الألعاب إلى نظرية الكاما سوترا"، وقلت فيه أنه "لو بحثنا عن مقاربة للتحليل فلن نجدها لا في جمهورية أفلاطون ولا في سياسة أرسطو أو أمير ميكيافيلي أو ثروة الأمم لأدم سميت ...ولا حتى في كتابات فقهاء نوازل السياسة أو الآداب السلطانية... وحده قراءة كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر للنفزاوي" وغيره من كتب الإمتاع والمؤانسة... توفر لنا البراديغم المناسب لتوصيف أحوال الحقل السياسي المغربي: "لنتحدث عندئذ مثلا عن الإثارة، والملاعبة، والمداعبة، والانحناء، والتصبيع، والاستلقاء، والانبطاح، والمفاخذة، والاضطجاع، والإيلاج، والعربدة ... ولنا أيضا أن نستعير من فنون الكاما سوترا لوصف أشكال الوضعيات "السياسية"، ليصبح الحقل السياسي بهذا المعنى عبارة عن "بورديل/ ماخور" للدعارة، حيث تمارس كل أنواع الرذائل والمكائد، كما تتم فيه أيضا طقوس تعتبر شاذة كاقتران ما لا يفترض فيه أن يقترن...ويؤتى فيها ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر. لتتحول البرلمانات والمناظرات "السياسية" إلى عروض التعري "الستريبتيز". لقد سبق أن كتبنا عن الأحزاب السياسية المغربية باعتبارها مجرد زوايا وتكنات عسكرية ومجمعات ومقاولات عائلية، لكن بعد التطورات الأخيرة لنا أن نتحدث عن العلب الليلية والكباريهات والمنتجعات والشقق المفروشة..."، هو نص مستفز وصادم للكثيرين لكنه صادق رغم ما يثيره من "اشمئزاز" لدى البعض. هذا من جهة، أما من جهة أخرى، لو قورنت هذه النصوص بكتابات أخرى لبدت محافظة.
أما بالنسبة لما إذا كانت تدعو لليأس، فبما أنها كما قلت تدعو إلى التمرد على الواقع فلا يمكن إلا أن تكون تفاؤلية، فالداعي إلى التغيير هو في جوهر الأمر متفائل وإلا فإنه لن يدعو إلى شيء مستحيل إلا إذا كان عبثيا. أما ما إذا كان الكتاب يصنف يمينا أو يسارا فليس إشكالا بالنسبة لي، فليضعه كل واحد في الرف الذي يريد، فقد يبدو للبعض إصلاحيا، وقد يبدو للبعض ثوريا، وقد يبدو للبعض شيء آخر... فهواة التصنيفات أحرار في تصنيفهم كما بدا لهم، لكن عن نفسي أرى أنه "كتاب متشائل" بلغة غرامشي.
لماذا لم تختر موضوعا واحدا تتحدث عنه في هذا الإصدار؟
ربما سأحاول ذلك في كتابات مقبلة، فقط منهجيا، وذلك لتعميق المقاربة والمناولة في كل موضوع على حدة، أما إبستيمولوجيا فهي إشكالات متداخلة إلى درجة يصعب الحديث عن واحدة دون أخرى، فمثلا لا يمكن الكلام عن الجسد دون استحضار سؤال الهيمنة، ولا يمكن فصل القهر الإجتماعي عن العدالة الاجتماعية والشرعية، ولا يمكن تمييز الشرعية السياسية عن المقدس، هذا المقدس الذي لا يفارق المدنس، والمقدس الذي يشرعن القهر والظلم. أما هذا الكتاب فأردته أن يكون منوعا ومؤسسا لنقاش وحوار مفتوح وجاد. فهو كما كتبت في تقديمه "تشظي لتساؤلات تفكر في الهوامش المنسية في الدين، والجسد، والجنس، والشرعية، والهيمنة، والثورة، والثروة، والتاريخ. إنه تشظي لطابوهات محرقة حافلة بالأسرار وواعدة بالإسرار"، وهذا التشظي سأحاول تفكيكه وإعادة تركيبه في القادم من المقالات، فكتاب "الهوامش المنسية" مشروع مفتوح ومتجدد.
هل أحداث الربيع العربي هي التي كانت الدافع لدخول عالم الكتابة بالنسبة إليك؟
اللحظة التونسية أو "البوعزيزية" كانت دافعة لأشياء ظلت تتراكم قبل ذلك، ليس فقط على المستوى الفردي ولكن على المستوى الجمعي والجماعي، فالربيع الديمقراطي نتاج تراكمات عديدة استمرت منذ فترة الاستعمار وما بعده، فكما كتبت في مقال ورد في الكتاب تحت عنوان "ارتدادات ما بعد الحراك": "صحيح أن الكل تفاجئ بهذا الحدث لكن أن يفاجئنا هذا الحدث لا يعني أنه لم يكن متوقعا، كما لا يعني أنه طارئ وعارض، حيث أنه مفاجئ من حيث الزمن والمكان والشكل لكنه طبيعي من حيث الأسباب والأهداف. فهذا الحراك كان نتيجة تراكمات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية...عديدة، لم يكن بالمطلق حدثا عارضا بلا تاريخ ولا نسب، بل هو تراكم تضحيات جسام، وتراكم احتقان شعبي ظل يغلي في الوجدان الجماعي للشعوب المقهورة منذ سنوات ما بعد الاستعمار... وهو مستمر مادامت أسبابه وأهدافه قائمة، قد يخفت صوته في لحظات وأماكن معينة لكن لا يعني ذلك انتهائه". هذا على المستوى العام. أما بالنسبة لي، فقد دخلت عالم الكتابة قبل الحراك، ولم يكن اهتمامي بثالوث الطابوهات (الدين، الجنس، الهيمنة) وليد الحراك الاحتجاجي الأخير. فدراستي الجامعية لمناهج العلوم الإنسانية مكنتني من كسب بعض أدوات التحليل والفهم خاصة مع قراءتي لبيير بورديو، وماكس فيبر، وجاك دريدا، وميشل فوكو، وغيرهم، فحاولت تطبيق تلك المناهج والأطروحات واختبارها في فهم وتفكيك ما يحيط بي.
بل أكثر من ذلك، يعود أول مقال نشر لي ورقيا إلى عام 2003، في صحيفة "الأيام"، أي في مرحلة الدراسة الثانوية، وكان غير بعيد عما أتناوله الآن، إذ كان بعنوان "إهانة الإهانة" وهو عبارة عن قراءة في كتاب "عولمة الإهانة" للراحل المهدي المنجرة، وقد اقتحمت عالم التدوين الإلكتروني بشكل خجول قبل ذلك بكثير. بالتالي فـ"الربيع الديمقراطي الداخلي" هو بالدرجة الأولى الذي كان دافعا لي إلى الكتابة.
يقول ناشط ياباني "الثورة العظيمة داخل فرد واحد فقط سوف تساعد فى تغيير مصير أي مجتمع، وعلاوة على ذلك سوف تساعد على إحداث تغيير في مصير البشرية"، لهذا على كل فرد أن يعيش ثورته الداخلية ليس فقط ليكتب ولكن ليعيش. وأنا أعتقد أن تحقيق "الربيع الداخلي"، أو التغيير على مستوى الفرد، أكثر أهمية وصعوبة من "الربيع الخارجي" أو التغيير على مستوى المجتمع.
هل ترتيبك للمقالات في الكتاب واختيارك للمواضيع كان اعتباطيا أم شيئا مدروسا؟
هذا إذا افترضنا الأمر بالضرورة أن يكون أحد الاختيارين، والأمر بالنسبة لي ليس كذلك، فقد يكون الترتيب والاختيار لا اعتباطيا ولا مدروسا، فاختيار المواضيع وتجميعها فيه شيء من الدراسة وشيء من الصدفة، فهو مدروس من حيث اختيار التيمات والخطوط العريضة، بالتالي عدم إيراد مقالات عديدة غير منشورة تتناول قضايا أخرى بعيدة نسبيا عما أردته لهذا الكتاب، ومدروس أيضا على مستوى ترتيب بعض المقالات، وإيراد هذه أولا وتأخير تلك. أما غير ذلك فتحكمت فيه "الصدفة" بالدرجة الأولى، كما تعمدت أن أترك ماعدا ذلك للصدفة، لأن معاني كل مقال لن تتأثر بمعاني مقال آخر إلا في حالات قليلة. ثم لأن التدقيق في دراسة ترتيب المقالات وفق سيرورة معينة يكون عندما يسعى الكاتب لاستدراج القارئ إلى مخرج ما أو إقناعه بفكرة ما، فيتعمد أن يسلك به منعرجات لن ينفذ عبرها إلا إلى ما يريد، وهذا ليس ما أرمي إليه. إذ لا أسعى لأقنع أحد بما ورد في الكتاب من أفكار، فللقارئ أن يبدأ الكتاب من الأخير أو من الوسط أو من المقدمة ... وله أن يقرأه مقلوبا إن أراد ذلك (يضحك).
ما الرسالة التي تريد توجيهها من خلال "الهوامش المنسية"؟
رسالتي أو هدفي من هذه الكتابات هو الدعوة إلى التفكير النقدي في البنيات التي تكوننا أو نكونها، سواء البنيات النفسية أو الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أو الدينية ... ليس فقط مساءلة هذه البنيات نقديا وإنما أساسا مساءلة هوامشها والمناطق المسكوت عنها فيها، على اعتبار أن كل البنيات والأنساق لها "مركز" و"هامش". فليس المهم أن نفكر بذات الطريقة، وليس المهم أن ننظر إلى الأشياء من ذات الزاوية، لكن المهم والضروري هو أن نمتلك القدرة على التفكير الحر التي هي في الأساس جوهر الوجود الإنساني. لكن لماذا هذا المبتغى؟ أعتقد أن أي تنمية أو أي تحول أو أي تغيير حقيقي لا يمكن أن يتأتى إلا بعد لحظة ما أسميه "تفكيك الطابوهات". فممارسة التفكير النقدي "للميتافيزيقا"، و"الأسطورة"، و"الخرافة"، و"الحشوما"... المتجذرة في هوامش الأشياء شرط لازم وضروري لأي تنمية، فصراع الهيمنة لا يحسم في "المراكز" وإنما على "الهوامش".
إن المبدأ الذي أدافع عنه هو أن "الحقائق" كامنة في "الهوامش"، فما علينا سوى التحلي بجرأة النبش في المنسي، لذا يجب على المؤرخ مثلا أن يستنطق حوادث التاريخ ويستكنه أسراره المنتزعة من الروايات المدرسية الرسمية، فالتاريخ لم يصنعه الأمراء والسلاطين كما يعمل بعض المؤرخون على ترسيخه في وجدان الشعوب، لكن التاريخ الحقيقي يصنع أساسا في أزقة الشوارع، والمقابر، والحانات، وأقبية السجون، والمخابز، والمجازر، وبين الحقول ... وعلى المثقف أن يسائل اللامفكر فيه في البراديغمات والنظم والخطابات، لأنه ليس كل ما يراد أن يقال يصرح به، فالإفصاح ليس غاية الخطاب دائما.