[rtl]الكيمياء السرية لقصص: نافذة على الداخل [/rtl]
للقاص أحمد بوزفور .
[rtl]قراءة محمد اكويندي[/rtl]
إن القصص الرائعة والعميقة التي تستطيع أن تخلف في أنفسنا تلك الكيمياء السرية، بصورها الرائعة والعميقة، قليلة جدا. وقصص أحمد بوزفور ، هي واحدة من تلك القصص التي تستطيع أن توصل إلينا تلك الكيمياء السرية، التي تفسر ذاك الصدى العميق الذي تخلفه في نفس متلقيها
بعد وقفة لم تدم طويلا. كسابقتها،يعود القاص أحمد بوزفور، ليطل علينا هذه المرة من نافذة على الداخل، وهي سادس أضمومة قصصية ، في سجله الابداعي القصصي، بعد النظر في الوجه العزيز، والظاهر الغابر ، وصياد النعام ، وققنس، وقالت نملة ، .نجده في هذه التجربة الجديدة قد أغواه ماهو شعري خالص وكذلك في نصوص أخرى قد تخللتها مقاطع من الشعر منه العربي والعالمي، وهو لايكتفي بذلك في استدعاء شخصيات أسطورية وتراثية وكذا نصوص وحكايات، وهذا ما سيدفعنا هنا الى نعتها بجماليات ما وراء القص، بمفهومه الواسع وعندما اشرتُ الى توظيفه للشعر والابداع فيه كما في قصة( الصمت) التي جاءت موقعة وموزونة(الخبب= المتدارك) وهذا لايعني أننا أمام القصة القصيدة كما ذهب الى ذلك إدوارد الخراط في مؤلفه الكتابة عبر النوعية.لأن أحمد بوزفور،يتطلع الى ما هو ابعد من ذلك بكثير فهو يتطلع الى الكتابة الحداثية، بإختياره لجماليات ماوراء القص،،كما عند الكتاب العالميين مثل كارلوس أُونيتيي، وروبرت كوفر، وبول أوستر،،وروادها الذين كانوا بدورهم يتطلعون الى كتابة ما بعد الحداثة. ،حتى أضع المتلقي، داخل الصورة للهذه الظاهرة الفنية وخصائصها وانشغلاتها أعطي ولو فكرة وجيزة..يوجد ما وراء القص بوصفه فنا من خلال مقاومة طغيان الثليث- العوالم المعزولة عن بعضها للمؤلف، والقارئ، والنص،عن طريق الانفجار المستمر الى الداخل والخارج محولا داخل النص الي خارج النص، وبالعكس. والقصة دائما تكون مقيدة بأسلوب تركيبه باللغة،فإن ما وراء القص يوجد بوصفه موضع الاستنساخ اللامتناهي، داخل نفسه. كما يعلمنا أن المعنى والجمال يتواجدان في المجاورة( انعكاسية ذاتية يحفزها وعي الكاتب بالنظرية التي يرتكز عليها بناء عمله) والقص يخلق معناه بالكناية. وأن القصة تتحول الي حياة حالما تنكشف سطورها ، أو صفحاتها، وتستدعي نصوص أخرى، أو حكايات كانت شعرية،أو نثرية، وهذ ما أشار إليه رولان بارت، بأن النصوص الحداثية لاتعدو كونها خليط وامتزاج من النصوص السابقة، وهذا ما أشرتُ اليه الى الشعر ي عند بوزفور وهو يستدعي بدوره ماهو شعري او سيري أ ومن الشعراء العرب والشعري او اسطوري ،او فلسفي
من الشعراء العرب التي تم استدعاءهم نجد أمل دنقل، محمود درويش، والفرزدق وقيس بن الملوح ، والمتنبي، والأعشى الى الشاعر العالمي الصربي المولد المزداد بمدينة بلغراد بيوغسلافيا تشارلز سيميك. وكما تمت الاشارة الي ماهو تراثي كقصة عمرو بن عبيد مع أبو جعفر المنصور، والمرأة التي راودها الفرزدق ووصلت قصته الى خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز وإن تم تحويرها الى لقاء السارد بها في محطات الطاكسيات..الخ،
إن اختيار احمد بوزفور الى الشاعر الصربي كون هذا الاخير ينحو الى قصيدة النثر التي هي عنده فعل تحرير للمخيلة، وخُلقا أدبيا خالصا يجمع بين استراتيجيين متنا فرين الغنائية والسرد، والنزوع الى السوريالي على صعيد الصور الشعرية المدهشة (أمد يدي الى الزهرة لألمسها فتسبقني يد الظل وتقطفها) من قصة الكهف.هذا من جهة. و من جهة اخري الغوص في اليومي المديني بروح تأملية. لاتخلو من السخرية، والغموض من جهة اخرى هذه الاختيارا ت لقت الموافقة عند بوزفور هي أن تعطي لقصصه أبعادا عميقة من حيث جعلت صور نصوصه تبدو وكأنها أكثر تجسيدا، وعوالمة محسوسة الكثافة. وكما سبقت الاشارة لإستدعاء قصص تراثية، كقصة عمرو بن عبيد التي تم توظيفها لمزيتين الأولى هي انه جعل منها إطارا للقصة أ و كما وصفها خوان مياص التابوت الذي يحوي الجثة أو الكتابة الدائرية بحيث تبدأ القصة بها وتنتهي كذلك. والمزية الثانية هي اسقاط شخصية حكاية عمرو بن عبيد علي شخصية محافظ المكتبة التي يبدي ظاهرها عكس ما يخفيه باطنها وشخصية عمرو بن عبيد معروفة بتناقضاتها هو الذي جعل سورة تبت يد ابي لهب، أن العبد خارج عن ارادة الله وهذه الواقعة وما تلاها جعله محطة شك وريبة لما يبديه من ايمان واستقامة،، الخ. وإن حكيت هذه الحكاية لعمرو بن عبيد بضمير الجمع المخاطب(كلكم يمشي رويدا يطلب صيد غير عمرو بن عبيد) إلا أن بوزفور حورها الى ضمير المفرد كما فعل في قصيدة محمود درويش(إنا نحب الورد لكن نحب القمح أكثر.) وقد حور الضمير فيها الي ضمير المتكلم. يجرنا هنا الضميرالمتكلم الى جملة موظفة في قصة الوحشة وهي لأرسطو(الانسان حيوان اجتماعي) ينبغي أن يزيد كلمة( للأسف) الانسان حيوان اجتماعي للأسف. ص، 22) ولكي نفهم هذه الجملة لابد لنا من التفكير بأن كلمة( للأسف)لاتدخل في وصف الحالة الواقعة ، التي تعبر عنها سائر الكلمات في الجملة ،بل يجب أن تُنسب الي حُكم يصدر عن المتكلم، فالضمير{ أنا} ليس مرجعية مثلما يكون لاسم العَلم مرجعية، وليس دلالة كما الاسم العادي، فهو ، عندما يستعمل في جملة ما، يدل على الشخص الذي يتلفظ بهذه الجملة .
أعود إلى شئ مهم من هذه الكيمياء السرية لهذه النصوص ألا وهي غواية الحروف،إذ أن كثيرا من الحروف محمل بكم هائل من الاشارات والرموز التي تمثل مقاما من مقامات التصوف،حيث نجد ابن عربي ينعث الحروف أنها أمة من الامم، وكذلك النفري الذي يقول بأن الحرف يسري حيث القصد (جيم جنة ، جيم جهنم.) وفي قصة الكهف ص، 70، نجد بوزفور يقول: أطلُ على وعدي،، مكتوبي الأسود يجثم في نقطة الخاء من الفخدين، كما يجثم قدر أسود صغير في نقطة الغبن من الغد، وتمتد هذه الغواية الي تخل الحرف المفرد في أحكام العلاقة التجاورية بين الدوال و حيث يعتمد علي ضرورة وجود حرف أو أكثر في الدالين المتجاورين( ألحظ أجحظ)( خلسة المختلس)( فقيه سوسي فساسوني) وهي أمثلة كثيرة هذا التردد يحدث ايقاعا صوتيا خافتا يحتاج الى انصات تام للإحساس به، لا تقف غواية بوزفور عند هذا الحد فهو يتمادى الى التورية ، والتلاعب اللفظي، والمحكي العامي(ما عندكش ما خصكش) وتوظيف الشعر والتجاور والشكل الجناس وما شابه لكي ينتج قصة لم ير المتلقي مثيلا لها.
ثم ، اعود مرة ثانية ، االى هذا الداخل ـ طبعا - من باب المتكلم، الذي يدل علي مفهوم الذاتية في نطاق دلالته الأوسع على الوعي الداخلي، إن ثنائية داخل الفرد بكونه ليس كلا متماسكا ، نجد السارد في لقاءه مع عشيقته في المقهى يتركها تتحدث لجسده الحاضر فقط اماهو فيغوص في ذاته( داخله) كأنه يغوص في بحر يبحث عن محارته المرجوة وحين يطفو على السطح تخاطبه العشيقة مندهشة أين آنت.ألا تسمعني،(من قصة الوحشة) والفرد وحده يستطيع أن يدخل في تلك السريرة على موضوعية العالم الخارجي التي نعتقد أنها متاحة أمام الجميع .
تبقى دلالة النافذة ونتناولها من منظور غي غوتيي في مؤلفه ( الصورة) ، الذي يعتبر النافذة أو الكوة في حائط ما يحمي الانسان من التماس المباشر مع الطبيعة المحيطة به ، وهي كذلك - النافذة - التي أشد تنظيما و يمكن أن نظيف بين المجال والاطار قاسما مشتركا يمكن تحديده في افتراض ملاحظ وحيد موجود في نقطة ثابتة هي النافذة \عين \سارد \مصور، وفي هذا الصدد يقول (هنري جيمز ) في توطئته لروايته (صورة سيدة ) : « با ختصار، ليس لبيت القصص نافذة واحدة وحسب ، بل مليون - بالا حرى عدد لا يحصى من النوافذ الممكنة . وكل واحدة تخترقها أو يمكن أن تخترقها ، من واجهتها الواسعة ، الحاجة إلى رؤيا فردية وضغط الارادة الفردية. وهذه القسمات ذات الحجوم والاشكال المختلفة ، تلتصق بالمشهد التصاقا يجعلنا نتوقع منها تشابها أعظم من المدلول مما نجده حقيقة .
إنها في أحسن الحالات نوافذ، مجرد ثقوب في جدار ميت ، غير مترابطة ، وجاثمة بانفراد..»وفي السياق نفسه يشبه محمد خضير القصة بأنها صورة معكوسة للقصر الاسطوري المنيف ذي الجدران الخالية من الابواب ، بدأ عصر البيوت القصصية البشرية ذات الرؤى اللا متناهية . بيوت الصمت التي تحتشدون عند نوافذها - أيها الطوبويون- الرؤيو يون - حكاة الفراغ والصمت والاشارات المتقاطعة . وأرى بينكم أشباها ومن لاشباه لهم . ولو كنتم خارجها لعجزتم عن الدخول ، لكنكم وجدتم أنفسكم فجأة عند النوافذ الداخلية .
و حتى لاتفوتنا ملاحظة (اللغة) التي نجد بوزفور يشتغل عليها وبها، و(اللغة) كما يذكر مارتن هيدغر في كتابه [ الكينونة والزمن ] بأنها مسكن الانسان، ولا مسكن دون نافذة التي هي سريرة الانسان أعود الي كلمة (العين) التي هي حاضرة بقوة في هذه المجموعة حتي أن قصتين تبدأ جملهما لافتتاحية هكذا:« عينان خضراوان» (أنظر قصة التعب، وقصة الكهف) وحتى في قصيدة لأمل دنقل فهي تحمل عنوان« العينان الخضراوان » و(العين) كما هو متعارف عليه نافذة للروح والروح لاتكون الا في الداخل، وتحضرني هنا قصيدة لمحمود البريكان يقول فيها: نافذة زرقاء تضئ في وجه ظلام الكون وبهذا القدر
أكون قد لامست في هذه المقاربة جوانبا من تلك الكيمياء السرية التي تفسر لنا الصدى العميق الذي قد تخلفه فينا هذه القصص الرائعة في أنفسنا، والتي هي مع كامل الأسف قليلة و نادرة جدا .