ثوراتٌ بالطَّبْل البلَدي
ــــــــــــــــــــــــــــ
لا تخرجُ بعضُ الأرواح الشّرّيرة ـ كما يزعمُ البعضُ ـ ولا بالطّبْل البلدي من جسمٍ دخلتْهُ واستراحتْ فيه ووجدَتْ بين تضاريسه بغيتها ومن صاحبِه تنفيذاً لمآربِها،وحينَ تملُّ تلك الأجسادُ نمطاً من الحياة المشتركة مع قرينٍ ـ بزعمهم ـ يفرضُ عليها ما لا تطيقُه تبحثُ عن الدّواء بين إيقاعات الدّفوف وسحُبِ الأدخنة وغرائبِ الشّعوذات ..
مِثلُ ذلك ثوّارُ بلداننا العربيّة بالأمس واليوم وغداً،فبعدَ أن سئموا حياةَ الذّلّ والإهانة وسُكنى المارِدِ في أرواحهم وعلى جدران بيتهم وداخلَ أروقة كتبهم ومقرّرات مدارسهم لم يجدوا للتخلّص منه إلا ـ طَبْلاً بلَديّاً ـ يتمثّلُ في هذه المظاهرات والاعتصامات والمسيرات والاحتجاجات التي يغلُبُ عليها طابع الأراجيز والأهازيج والصّيحات والأغنيات المتزامنة مع التّصفيق وأحياناً الرّقص والميلان ..
ربّما شعرَ هؤلاء بأنّ أجسادهم وأرواحهم تحتاجُ للخروج للهواء الطّلق لترقصَ ذهاباً وجيْئةً لعلّ أن يختنقُ شيطانُ الحاكم الذي بداخلها فيخرُجَ إلى غير رَجْعة،لكنّهم نسوا بأنّهم هم الّذين قالوا بأنّ من المَسّ ما لا يستطيعُ إخراجه من أجساد بني آدم أكبر الطّبول طرْقاً إلا إن كانتْ طبولَ حربٍ تحرقُ الأخضر واليابس فيموتُ الممسوس ولمّا يتركْهُ عفريتُ الطّغاة في حاله حيّاً وميّتاً ..
لا سُخريَةَ أبداً من هدفِ الثائرين ولا من رغبة المتظاهرين،إنّما الأمرُ الذي تقفُ عنده العقول حائرة والقلوب متفطّرة هو كيف انحصرَتْ وسائلُ التّغيير والتّعبير في الصّفير والزّجل السّجْع والأهزوجة الممجوجة؟ وكيفَ غابَتْ كلّ الطّرق والمسلكيّات السياسيّة والشّعبية الفكريّة المنظّمة لنعودَ بمعالجةِ أكبر أمورنا أهمّية بذات الخلفيّة الموغلة في الجهل والأمّيّة عندما نُسقِطُ كافّة إخفاقاتنا على الأرواح السُّفليّة ..
كانوا قديماً يحدُونَ للجمالِ فتُسْرع،ويصفّقون للدّجاج فيعودَ لمساكِنه،ويغنّونَ للدّلافين فتتوالد وتتناسل،ثمّ عادوا اليومَ وبحثوا في الأمر ووجدوا بأنّ للأصواتِ تأثيراً كبيراً على الدوابّ والهوامّ والحيوانات لتحقّقَ رغبةَ الإنسان طائعةً منتشية،وهؤلاء هم بنو الأصفر من الغرب والشّرق الذين لا تربطهم بالعربيّة سوى حبّ الاستطلاع وإيمانهم بأنّ الثقافة لا لونَ لها ولا عِرْق،أمّا نحنُ فلا نكادُ نسمعُ صوتاً غريباً يصدُرُ من غرفة في بيتِ أحدنا إلا بحثنا بجدّية عن إقامة حفلةِ زارٍ تُخرجُ الغريب ..
صحيحٌ بأنّ الفوضى والضّجيج واعتلاء المنصّات للكلّ تثيرُ حنقَ الكارهين،وتوقظُ إجرامَ المجرمين،وتعيدُ حسابات الهادئين،وربّما تُعجّلُ بزوال شياطين الجنّ الذين وجدوا في شياطين الإنس ما يُغني عن دوامهم طوال الـ 24 ساعة في اليوم،لكنّ انعدام المنهجيّات وفراغَ الثّورات من مضمون العقل ومعاني الإقناع أسرعَتْ بكافّة شرائح المجتمع أن يكونَ بمجرّد وجوده في الشّارع من صنّاع ثورة الـ 25 من يناير أو الـ 14 من فبراير بل وحتّى الـ 17 من ديسمبر ..
بدا لي بأنّ الطّريقة التي أدخلنا بها كثيراً من أصنام الطّغاة في قلوبنا ونفوسنا ونحنُ نهتفُ سنينَ طويلة "عاش عاش" بزغاريدِ نسائنا وطبول رجالنا وتهريج أطفالنا،هي ذات الطّريقة التي نسير فيها اليوم مستخدمين ـ الطّبْل البلدي ـ ليتركَ كرسيّ الرئاسة من تربّع عليه ونسيَ بأنّ السّحر قد ينقلبُ على السّاحر ..
كما بدا لي أيضاً أنّ ـ الطّبلَ البلدي ـ واستخداماته متعدّدة الأغراض"في الزواج،والطّهور،والنّجاح،والعين،والحسد،والحرب،والطّفش،والثورات"أضحى علامةً فارقة وماركةً مُسجّلة بامتياز لأمّة عربيّة إذا غضبَتْ رقصَتْ،وإن ثارَتْ أبدَعتْ في الشّعارات والجُمُعات والتّسميات والخطابات،وإن ضاقَ بها الحال فهي المبدعة في البكاء والعويل واستجداء الشّفقة وقرع ـ الطّبل البلدي ـ للعواطف والأحاسيس ..
لو كانَ بشّار الأسد "مارداً" لخرج من جسد سورية المنهك بعدَ هذه الطّبول التي تُقرَعُ صباحَ مساء،وبعدَ هذه الأهازيج التي تخطّت حاجزَ الإبداع،ولو تنفُعُ التّعويذات والأغنيات لأبقت "الله وليبيا ومعمّر وبس" القذّافي على قيد الحياة قائداً لثورة الفاتح ـ كما يسمّيها ـ ولو أنّ الرّقصَ وسُرعةَ البديهة لدى المصريّين في ابتكار الصّيحات والنّكات تُجدي في صرْفِ المكروه وإبعادِ غير المرغوب فيه لذهبَ "طنطاوي" وجماعته إلى غير رجعة،إنّ عفاريتَ عالمنا العربي لديها مناعة ضدّ الصّناعة الوطنيّة وعلى رأسها ـ الطّبل البلدي ـ فمزمارُ الحيّ لا يُطرِب ..
ولمّا كانت القوّة هي المعوّل عليها في أن يستريح المُتعبُونَ من معذّبهم اقتنعَ عامّة الثوّارُ في بلادنا العربيّة بأنّ إخافةَ المارِد بزمجرة الحناجر وصيحاتِ الكُره ستجعلُ قلبَه يرجف ويُغادر سريعاً،بينما أحبَّ آخرون سوْقَ الفلول خارجَ إطارِ المنافسات ـ بالطّبل البلدي ـ وجذَبَ فريقٌ مُقابل الأنظارَ لهم بذات ـ الطّبْل البلدي ـ في مسابقة نحوَ الإخافةِ من هول المصير لم ينجحْ فيها أحد ..
وكما قيل قديماً ـ ما أطالَ النومُ عُمراً ولا قصّرَ في الأعمارِ طولُ السّهر ـ فلا أظنّ بأنّ ـ الطّبل البلدي ـ ولا حتّى ـ موسيقى الرّاب ـ بإمكان واحدٍ منهما إطالةَ عُمرٍ ولا تقصير آخر،لكنّهما وبشهادة التّجربة والمشاهدة قادران على تعزيز ثقافة التّخدير وإفراغ الشّحنات السّالبة والموجبة في الهواء الطّلق،تماماً مثلَ تلك الأعيرة النّاريّة التي يُطلِقها الفرِحونَ بزواج أو المبتهجون بشِبه نصرٍ والمبتسمون لعودة غائب ..
صرّحَ أحدُهم بأنّه إن حكمَ الإسلاميّون والمحسوبون على التيّار الدّيني فلن يتركوا الحكمَ بعد ذلك ولن يخرجوا ولو ـ بالطّبلِ البلدي ـ ولعلّي هنا أقول: ألمْ يأتِ لأغلبِ الثائرين في شوارع عالمنا العربيّ بشيرٌ أو نذيرٌ يُخبرهم بأنّ طُغاةَ الدّماء لا يخرجون ولا يسقطونَ ـ بالطّبلِ البلدي ـ مع احتماليّة هروبهم إنْ رأوا"العصاية"من غير"طَبل" فإذا ضُرِبَ الإمامُ خافَ المؤذّن ..