تطور منظومة الفساد الاقتصادي بالمغرب
إدريس قصوري
(أستاذ جامعي – كلية الآداب الدار البيضاء )
تقديم
سبق أن كتبت مقالا عن "أصل الفساد في المغرب" نشر بمجلة "أمل" و بجريدة "الصحيفة". و قد تزامن ذلك مع مجيء الملك محمد السادس إلى الحكم فلم يرق محتوى المقال – رغم موضوعيته – بعض الناس الذين كانوا يتطلعون إلى عهد جديد من تدبير الملك و الحكم بالمغرب. غير أنه و بعد أن مضت سنوات كافية لتقييم تجربة إستراتيجية في تدبير الشأن العام المغربي بدا أن الفساد قد انتشر في العشرية الأولى من الألفية الجديدة و في ظل تجربة ما سمي بالتناوب التوافقي إلى الآن مثل السرطان في جميع المؤسسات العمومية و الخاصة، و أصبح ثابتا مهيمنا في دواليب الحياة المغربية حتى تعذر إيجاد مناعة ما لهذا الداء إلا الذي أضحى يلتهم الأخضر و اليابس في واضحة النهار، و حول حياة الشباب و المتعلمين خاصة و الفقراء عامة إلى جحيم لا يطاق.
و بعد أن رفع شباب 20 فبراير شعارين مركزيين متلازمين أطرا حركتهم في تفاعل منطقي مع شعارات ثورات تونس و مصر و ليبيا و اليمن و تحركات البحرين و الكويت و الأردن و العراق و سوريا، و هما "إسقاط الاستبداد" و "إسقاط الفساد" مطالبين بعدم الجمع بين "السلطة و الثروة"، و بعد أن جاء خطاب الملك محمد السادس ليوم 9 مارس 2011 ليخرج آلية تعديل الدستور رغم مرور ثلاث دورات انتخابية مكتفيا بأوراش السياسة الإسمنتية المتمثلة في تجديد البنية الأساسية للمغرب و في إحداث مرافق و خلق أنشطة اجتماعية لا تسمن و لا تغني من جوع سوى إعطاء مشروعية للنظام باسم التنمية تاركا أمر تدبير الاقتصاد و الحياة الإدارية لبيروقراطية إدارية فردية و عائلية عاتت في البلاد فسادا و نهبا للأموال العامة و للموارد العمومية للدولة و ترامت على ممتلكات الفقراء و حقوق المستضعفين، حيث تم ترك الفساد يصول و يجول و يزداد غلظة و صلافة في زمن التغني بحقوق الإنسان و دولة الحق و القانون و المجالس الإستشارية للحقوق و الرشوة و المنافسة و تقارير المجلس الأعلى للحسابات و هيئة الإنصاف المغلوبة على أمرها و التي تعتم السواد و الأوضاع، نرى من الواجب الوطني و المصلحة العليا للبلاد أن نعود لنرسم أمام الرأي العام المغربي صورة و حقيقة الفساد الاقتصادي لعل ضمير النظام يصحو ليأخذ بما يلزم من الحكامة السياسية و يمر إلى إعمال المساءلة و يوجه الآلة الأمنية و القضائية إلى موضع الداء الحقيقي عوض قمع الشباب و لعل الدولة المغربية تحافظ على ما تبقى من أصولها العامة و تصون حقوق الشعب الذي تدهورت معيشته و أصبحت جحيما يولد الإرهاب و الجريمة و تدني القيم و تفضيل السلوك العدواني و اللامسؤولية كعلامة مميزة للحياة المغربية.
و في هذا الإطار، أرى أن شعار "إسقاط الفساد" الذي رفعه شباب 20 فبراير مطالبا من خلاله بالتغيير لن يكون له معنى إلا بالعودة لمعرفة مسار و صيرورة الفساد الاقتصادي على مدى زمني تاريخي يمتد من الخمسينات إلى اليوم. ذلك، أن قوة الشعب المغربي تكمن في وحدته. و بما أن الوحدة قد تتعرض – من موقع حرية الرأي و التعبير – إلى تقديرات مختلفة تكاد تكون شاسعة البون فيما يتعلق بالقضايا الدستورية و طبيعة النظام المناسب للمغاربة و القادر على أن يضمن المصلحة العامة للمغرب في الألفية الثالثة، فإن بنية سرطان الفساد الاقتصادي اللاأخلاقية لا تسمح لأحد كيفما كان أن يقبل بالفساد و ينادي بمزيد من تفقير الدولة و تجريد الفقراء من كرامتهم.
عرفت الدولة المغربية على مدى 60 سنة من تدبير الشأن الإقتصادي المغربي نهبا متصاعدا حادا و مفضوحا للمال العام و للأصول العمومية. فانتقلت ممتلكات الدولة و حقوق الشعب، في فترة وجيزة، إلى يد بيروقراطية إدارية فاسدة تحولت، بسرعة، إلى رأسمالية فردية ثم عائلية فاسدة قائمة الذات تعاضدها لوبيات فاسدة تشتغل سواء من داخل الإدارة و المؤسسات مستغلين جميعا النفوذ الإداري و السياسي لتمرير المخططات و القوانين المجحفة و خرقها و تجاوزها أو من خارج النسق الإداري في الظل و الظلام و في القطاعات غير المهيكلة أو المخدرات و تهريب الأموال حيث غاب تكافؤ الفرص و انعدمت العدالة الإجتماعية بصفة مطلقة و تكرس الإستبداد الاقتصادي و السياسي كتجل موضوعي لتلازم السلطة و الثروة و النفوذ و الفساد. فانتقل المغرب، في زمن قياسي، من دولة غنية بمواردها الطبيعية و البشرية إلى دولة فقيرة معطلة الإرادة و الأداء و غارقة في الديون الداخلية و الخارجية التي تكبل الحاضر و ترهن المستقبل بشتى المخاطر حيث لم تخرج ميزانية السنوات الأخيرة من توازنات مالية يسود فيها العجز و التضخم و يؤدي فاتورتها المهنيون الصغار و الموظفون و المأجورون و الفئات المتوسطة و المحرومة و يقبر فيها الشباب و حملة الشهادات أحياء في ظل ارتفاع الأسعار و غلاء المعيشة و انتشار البطالة. و في المقابل اغتنت البيروقراطية الإدارية و السياسية و تحولت إلى رأسمالية فاسدة تضخمت أرصدتها و معاملاتها و ممتلكاتها من لاشيء و نهبت كل الخيرات إلى أن بات الفساد يفرض على أصحابه تهريب الثروات إلى الخارج باسم الاستثمار و غزو الأسواق عبر مختلف الشركات و الشركاء هربا من المراقبة و المحاسبة.
و لقد تشكل تطور سرطان النهب في منظومة فساد اقتصادي شاملة و متكاملة في تلازم بنيوي بين الإداري و السياسي غطت كل المجالات و القطاعات حتى أصبح الإداريون رأسماليين و الرأسماليون سياسيين ينتشرون في مختلف المناصب و المؤسسات و الأنشطة و الخدمات من برلمان و حكومة و قضاء و مجالس وطنية و جهوية و جماعات و مقاطعات و هيئات وطنية مدنية و عسكرية و أمنية و شركات كبرى عامة و خاصة. و انتقلنا من عمليات إعادة إنتاج الواقع الطبقي المهول إلى إيديولوجية توريث المناصب و السياسة التي أصبحت آليات أساسية لاستمرار النظام قبل الدولة و كأن الكفاءات و الاستحقاق و الإبداع مسألة فطرية و مقترنة بالنسب و الأصول الاجتماعية و الاسم المحمول و بالمنطقة و بالزمالة و الصحبة في أطروحة صوفية تحتفل بميثولوجية البركة التي لا تعرف العبور إلى أبناء الفقراء و الطبقات الشعبية و المتوسطة و أضحت مقاييس الكاريزمية مقتصرة على فلان الذي قضى 60 سنة بالبرلمان و فلان الذي ساد في الإدارة 50 سنة و فلان الذي يؤثث فضاء السياسة بعد الثمانين و فلان الذي أصبح نابغة في تدبير الشركات العملاقة أو التلاعب بالبورصة و تحقيق الأرباح الخيالية دون إنتاج في دولة عاجزة عن خلق أنشطة صناعية و تجارية دينامية و عن توفير بنية اقتصادية متطورة و قادرة على المنافسة و امتصاص البطالة و إدماج الشباب و في عهد فلان الذي ينتقل من مجلس إلى مجلس و من مؤسسة إلى أخرى و كأن نساء المغرب جميعهن لم تلدن سواه دون اكتراث بمبدأ تكافؤ الفرص أو إعادة توزيع الثروة و الدخل أو تدبير الاحتقان السياسي أو إدماج النخب و الشباب. و قد بلغ عبث الفساد درجة قصوى من اللامعقول فأصبح من الطبيعي و العادي جدا أن نطالع على صفحات الجرائد أخبار استغلال النفوذ الإداري و السياسي للترامي على الأراضي و الحصول على الصفقات المشبوهة و على القروض البنكية دون ضمانات حقيقية أو نهب المال العام و سلب الحقوق الخاصة دون أن يحرك أحد ساكنا بل إنه بإمكان أبسط إداري أو سياسي أن يحول بجرة قلم اليوم الحقوق التاريخية و الأسرية للفقراء إلى نفسه أو لمصلحة شخص آخر.
و يظهر من خلال رصد مجمل مظاهر و مجالات الفساد الاقتصادي أنه تشكل بشكل فوقي كاستمرار لمرحلة ما قبل الحماية و ما قبل 1956 و يشير لاستمرار نفس البنية العلائقية المخزنية التقليدية بكل روافدها و رموزها في جسد و بيئة المغرب المعاصر و التي تغذت مثل السابق من النفوذ الإداري المخزني و من الرصيد الاقتصادي و الوعاء العقاري للدولة و لأبناء الفلاحين الصغار و الجماعات السلالية و أراضي الجموع و ضيعات المعمرين و احتكار الرخص و التهرب الضريبي و الصيد بأعالي البحار و الاتجار في المخدرات و التلاعب بالبورصة و بالقوانين و نهب الأبناك.
و نظرا لأهمية شعار " إسقاط الفساد" الذي ترفعه حاليا حركة 20 فبراير، فسأحاول أن ألخص بعض مراحل تطور منظومة الفساد الاقتصادي بالمغرب ثم العمل على إنجاز تركيب لبعض مظاهره و عناصره و أساليبه في الحياة العامة.
1- تطور منظومة الفساد الاقتصادي المغربي:
يمكن حصر تطور منظومة الفساد الإقتصادي بالمغرب في 4 مراحل أساسية تشكل المنحنى العام للفساد الإقتصادي على مدى 60 سنة الماضية.
أ- من الدولة التقليدية إلى البيروقراطية الإدارية و السياسية الفاسدة:
مثلت مقولة "المغرب بلد فلاحي" لازمة اقتصادية شكلت ذهنية أجيال متعلمة عديدة من أبناء المغرب. و كانت انتظارات الحركة الوطنية المغربية و النخب السياسية بعد ذلك تروم توظيف المغرب لهذا التميز الفلاحي للإنتقال من تحقيق الإكتفاء الذاتي إلى استثمار عائدات التصدير في بناء اقتصاد وطني قوي قادر على تثبيت دورة اقتصادية مغربية متكاملة طويلة الأمد و سريعة التكيف و التطور مع المستجدات العالمية و المناخية. فبدأت بوادر التصنيع من خلال مصنع الصلب و معامل تصبير السمك و توجيه عائدات الفوسفاط إلى توظيف أنشطة صناعية و تجارية مفيدة قادرة على خلق فرص الشغل و توفير الحاجيات الأساسية للمجتمع خصوصا بعدما تبين أن الرأسمالية التقليدية المغربية التي راكمت أراضي شاسعة و خيرات كبيرة في عهد السلاطين و فترة الاستعمار غير قادرة على لعب دورها الطبيعي في التحول إلى رأسمالية حديثة تشيد اقتصادا وطنيا جديدا و قويا نظرا لعدم توفرها على التقاليد الإستثمارية للرأسمالية الغربية.
و بذلك، أنيطت مهمة بناء اقتصاد مغربي قادر على تلبية حاجيات و مستلزمات العيش الكريم للمغاربة بالدولة المغربية في ظل تواكل أعيان المغرب من ورثة العهد السلطاني و الإستعماري الذين لا قبل لهم بقيم و ثقافة الرأسمالية حيث الإستثمار قرين المغامرة و النفس الطويل و المنافسة الشريفة و الربح المشروع في إطار القانون و تكافؤ الفرص. و هو ما لا تعرف العائلات الأوليغارشية المغربية ألفه من يائه بل و تحمل قيما استهلاكية نقيضة له.
لقد كانت الفرصة مواتية أمام النظام المغربي في عقدي الستينات و السبعينات لربح رهان بناء هذا الاقتصاد المغربي الشامل و المتكامل بين الفلاحة و الصناعة و التجارة لما يتوفر عليه من موارد طبيعية مختلفة و من قدرات بشرية مؤهلة عربيا و إفريقيا و مقارنة مع بعض الدول الأوروبية و الأسيوية كذلك. حيث كان الدخل الفردي و الإجمالي يضع المغرب في مقدمة الدول المؤهلة لبناء اقتصاد سليم و متطور تتوفر فيه كل مقومات اختراق الأسواق العربية و الدولية و جلب استثمارات قوية. بيد أنه خالف كل التنبؤات و تحول بسرعة البرق إلى اقتصاد جامد متدهور و بطيء يفرخ البطالة و ينغص شظف العيش على الفقراء لأنه خان مبادئ المغربة و التأميم و أدار ظهره لصناعة التاريخ و بناء البلاد على أسس ديمقراطية حقيقية.
و عوض أن تنجح الدولة المغربية في تحقيق أهداف التنمية الإقتصادية المنتجة و المتطورة و السريعة و تأصيل قيم الإنتاج المواطن، فقد أبدع النظام في تمرير لا أخلاقي لممتلكات و لأصول الدولة و للمال العام لحفنة من ذيول المخزن و رموز البيروقراطية الإدارية و اللوبيات السياسية التي استغلت ظهائر التعيين و كراسي المناصب و نفوذ السلطة و الحكومة في مختلف أجهزة و مؤسسات الدولة لترتمي على المال العام و الممتلكات و تحويلها إلى سندات و عقود و ممتلكات و ثروات خرافية و امتيازات خاصة.
و قد استطاعت البيروقراطية الإدارية و السياسية، في ظل شطط السلطة أن تتفنن في بناء آلية جهنمية لنهب الدولة أرضا و شعبا لتبني حولها أسوارا حديدية و مشاريع قمعية غير مبالية بأصوات الشعب و بشكاوى المتضررين الذين كانوا يؤدون دائما ثمن رفضهم للفساد غاليا بأرواحهم و سنوات من عمرهم و مآسي عائلية شهدت عليها سنوات الرصاص التي تعد المرحلة الأولى للتحول نحو البيروقراطية الإدارية و السياسية الفاسدة.
ب- من البيروقراطية الفاسدة إلى الرأسمالية الفاسدة:
إن حدة و قوة و عمق و اتساع فساد البيروقراطية الإدارية و السياسية سرعت عملية تحولها إلى رأسمالية فاسدة مترامية الأطراف في الفلاحة و الصناعة و التجارة و الخدمات و السياحة و البورصة و العقار و التهريب و المخدرات.
فعوض أن تعمل هذه البيروقراطية على بناء مشروع مجتمعي متماسك من خلال اقتصاد وطني قوي ذي روح اجتماعية و تعمل داخليا على سد الفجوات الاجتماعية بين مختلف الفئات المغربية, و خارجيا على ردم الهوة بين الاقتصاد المغربي و الإقتصادات الدولية المتطورة سارت البيروقراطية الفاسدة في اتجاه تحويل رؤوس الأموال و الأصول العامة لمصالح خاصة. و قد برزت إلى السطح أسماء سطعت في سماء الرأسمالية الفاسدة و أصبح الخيال العام يحكي الأساطير بشأن أموالها و ممتلكاتها بفضل "ذكائها الخارق" و تخطيطاتها المبدعة في الوقت الذي تؤرخ الحقائق الموضوعية و الوقائع الدامغة للأوضاع المزرية و المفلسة لجميع الإدارات التي تولت مسؤولياتها و لكل المؤسسات التي أشرفت عليها. فتولدت لدينا مفارقة عجيبة تتكون من إدارات و مؤسسات عمومية مزرية و منشآت خاصة متخلفة و غير منتجة و من رموز و أساطير رأسمالية تولد كل يوم من رحم اقتصاد يموت في أحشاء الدولة و يزدهر في بطون المفسدين.
لقد بلغ مستوى التراكم الرأسمالي الفاسد حدودا بدأت تنسج حوله حكايات أزلية مستقية من عبق ألف ليلة و ليلة عوض إنتاج مناصب شغل. فعرس فلانة بنت فلان بكى له القمر و غارت منه النجوم. و هدية فلان بن فلان في عيد ميلاد فلانة بنت فلان جعل عبلة تنهض من قبرها و تعيد الألف ناقة لعنترة بن شداد طالبة المزيد. أما مغامرات بن فلان و بنت فلان فتجاوزت جولات أوناسيس و دونت في دفتر غينس للرأسمالية الفاسدة. و لعل مثال ثروة وزير الداخلية السابق ادريس البصري و شركاته خير دليل على مسار تحول البيروقراطي الإداري المتواضع الأصول الاجتماعية إلى الرأسمالي الأسطوري الجشع. غير أن نموذج البصري و السقاط و برادة و بنجلون و بنسليمان و العلمي أصبح قاعدة بلا استثناء فغدى لكل مرحلة بصريوها و لكل مدينة و قرية و مؤسسة مفسدوها بل أصبحنا نسمع دون أن نمتلك حق الدهشة عن تحول مصلح الدراجات الهوائية إلى ميلياردير كبير و رجل البناء البسيط إلى إمبراطور منقطع النظير.
ج- من الرأسمالية الفردية الفاسدة إلى الرأسمالية العائلية الفاسدة:
إن المنطق يقول إن الحكم الديمقراطي الحقيقي و الإدارة المواطنة الفعلية يؤديان إلى بناء اقتصاد وطني قوي يجعل رأسمالية الدولة تتقوى بجهود كل المواطنين و تخترق كل المجالات الممكنة و تعيد التوزيع العادل للدخل ليشمل جميع أفراد المجتمع في إطار مبدأ تكافؤ الفرص في العمل و الوظيفة و المنافسة الشريفة في الصناعة و التجارة و الخدمات و المساواة في دفع الضرائب و أمام القانون و الحق في السكن و الصحة و التعليم.
بيد أن الإستثناء المغربي ظل دائما يتعذر على الفهم حيث تحولت أصول الدولة إلى رأسمالية فاسدة لم تتوقف عند حد تحويل الأصول العامة إلى ممتلكات فردية تعمل على بث الحياة فيما تبقى من أنفاس في اقتصاد الدولة الجامد و المريض و في مداخيل عمومية لا تسمن و لا تغني من جوع و لكن عمل على جعل النفقات العامة تعيش على القروض الداخلية و الخارجية.
و قد ازداد جشع الرأسمالية الفاسدة ليرسم معادلة جديدة تؤكد بأنه كلما استدانت الدولة من الخارج كلما نسجت الرأسمالية الفاسدة نموذجا أخطبوطيا يتكون من جميع أفراد العائلة الواحدة أو من مجموع عائلات الأسرة الواحدة من الجد إلى الحفيد أصولا و فروعا. إذ عمل الرأسمالي الفاسد على تفريخ مفسدين جدد و كثر سيستفيدون بشكل غير مشروع من الصفقات و يتحكمون في المال العام و الأنشطة و الممتلكات تحت أسماء و شعارات كثيرة. و تحول الرأسمال الفاسد من الفرد إلى العائلة و من الواحد إلى العشرة و المائة و من الشخص إلى الحاشية. و بات للرأسمالي الفاسد نموذجه الصغير و أخوه الكبير فتحولت "كان" السلطانية التقليدية من عمامة الأعيان و القواد و الباشوات و الأعوان إلى "إن" الملكية الحديثة و الرأسمالية العائلية الفاسدة صنيعة ربطة العنق الإدارية و السياسية الفاسدة. و اتسق الفساد بين مغرب السيبة و مغرب الحكامة.
د- من الرأسمالية الفاسدة إلى أخواتها:
ذكرنا أن أصل الرأسمالية الفاسدة متفرع عن بيروقراطية إدارية و سياسية فاسدة تحولت إلى رأسمالية فردية و عائلية فاسدة سليلة نظام سلطاني تقليدي بأعيانه و أعوانه. و قد انضم إلى هؤلاء رأسماليون فاسدون آخرون استفادوا من واقع الفساد و التحقوا بالرأسمالية الإدارية و السياسية الفاسدة فاحتلوا المجالس و دخلوا البرلمان و تحكموا في المؤسسات و الممتلكات و الصفقات و الأموال العامة.
و بما أن أخوات الرأسمالية الفاسدة كثيرون سنكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج منهم في السياق الحالي:
- المضاربون العقاريون: يأتي المضاربون العقاريون على رأس شركات الرأسمالية الفاسدة. ذلك، أن فشل نظام الرأسمالية الإدارية و السياسية الفاسدة في بناء اقتصاد وطني قوي و في توجيه الإستثمارات إلى صناعة متطورة و إلى أنشطة تجارية متنوعة بل إن تعويض النظام لهذه الأهداف التنموية بسياسة الاقتصاد الإسمنتي سواء في إطار تجديد البنيات الأساسية بعد تأخر كبير أو في إطار السكن الاقتصادي بعد 50 سنة من الاستقلال من خلال وسطاء مضاربين و في ظل غياب أية رقابة شعبية على الصفقات و على المشاريع, تفتحت شهية المضاربين العقاريين الذين احتكروا القطاع مستغلين بنية الفساد الإداري حيث تم الترامي على الوعاء العقاري للدولة و للمواطنين و لساكنة دور الصفيح بأثمنة زهيدة و إعادة بيعها بعد بناء مغشوش بأسعار خيالية.
لقد انتظر النظام 50 سنة كاملة إلى أن ارتفعت أثمنة العقار ليفوت الوعاء العقاري المغربي بأثمنة زهيدة لأشخاص فرديين يطردون الفقراء من سكناهم و يعيدون بيعه لهم في أماكن نائية و بعيدة عن مقرات عملهم بأثمنة باهضة و خيالية. فماذا كان النظام سيخسر لو مكن السكان من أراضي سكناهم و حفزهم على بنائها بشكل جماعي و تصاميم تخفض التكلفة حيث يتمكنوا من الحصول على سكن لائق بأثمنة أقل بكثير من الأثمنة المعروضة من طرف العقاريين الفاسدين؟ و ماذا كان سيحدث لو تكلف النظام ببيع الأراضي بأثمنتها الحقيقية و مكن سكان دور الصفيح من سكناهم بأثمنة معقولة و رمزية؟
و في ظل اتساع الصفقات الإسمنتية و عقود التوريد و الخدمات المغشوشة تناسلت الشركات التي تقدم للدولة أشغالا و خدمات كبيرة و متنوعة يتم من خلالها و عبر العلاقات الزبونية الفاسدة و في غياب كلي للشفافية و عبر خرق فاضح للقوانين و دون اكثراث بمعايير السوق و أخلاقيات العمل و مواصفات الجودة تحويل الأموال العامة إلى الخواص. فلقد طالعنا في الصحافة العديد من التفويتات للأراضي بأثمنة زهيدة لا تصدق و التي استفاد منها مجموعة من الأشخاص على حساب ذوي الحقوق الأصليين أو المستغلين لعقود من الزمن. و بمعية ذلك تم الترامي على ممتلكات الدولة و الخواص و تحويلها إلى ملك خاص من طرف أسماء معروفة و بارزة. و تداولت الصحافة واقع أراضي لهيئات حكومية قد لا يتصور أحد أن يطالها التلاعب. كما تابعنا عبر الصحافة كذلك صراعات لمؤسسات عقارية تم تبادل استغلال النفوذ و المحسوبية و عدم احترام ضوابط السوق بين أطرافها بلغ أثرها حد التهديد بسحب الاستثمارات من السوق المغربي بل و تم استغلالها لتوجيه رؤوس الأموال نحو الأسواق الخارجية للهروب من الرقابة.
- أباطرة المخدرات: و إلى جانب المضاربين العقاريين و المستفيدين من البيروقراطية الإدارية و السياسية الفاسدة هناك أباطرة المخدرات و الدعارة و التهريب و الذين يعملون في الظلام و خارج القانون بمعية الرأسمالية الفاسدة و لصالحها.
لقد سمعنا الكثير عن أباطرة المخدرات و علاقاتهم بالإدارة و بالسياسة و عن صراع اللوبيات الإدارية و مواقع النفوذ. و بات التصريح علنا بأن البرلمان المغربي يعج بأباطرة المخدرات الذين يشيدون قلاعهم داخل جميع الإدارات.
و قد انتقلت هذه الفئة من الاستثمار في السياحة و الترفيه و الدعارة إلى العقار و الزراعة أي من الهوامش و الساحل إلى الداخل.
- المستثمرون الأجانب: في ظل سياسة السوق المفتوح و الحسابات السياسية الفجة و جلب الاستثمار عملت الرأسمالية الفاسدة على عقد شراكات غير مبدئية مع عدة جهات أجنبية أصبح لها نصيب الأسد في الأنشطة الاقتصادية و الخدماتية المغربية. و قد عملت الرأسمالية المغربية الفاسدة على الحصول من خلال الرأسمالية الأجنبية على صفقات و أموال عمومية غير مشروعة.
2- الآثار الخطيرة للفساد الإقتصادي:
و على كل حال، فمن الرأسمالية التقليدية ما قبل 1956 إلى الرأسمالية العائلية الفاسدة مرورا بالبيروقراطية الإدارية و السياسية و بالرأسمالية الفردية الفاسدتين ثمة مسلسل فظيع و بشع من تفقير المغاربة دولة و شعبا، مجتمعا و أفرادا بفعل حدة النهب و قوة الفساد اللتين لم تنقطعا لأزيد من 60 سنة متتالية من أحمد رضا أكديرة إلى الماجدي و كافة نضرائهما حيث تم تحويل الأموال العامة إلى أموال خاصة بطرق غير مشروعة و شطط سلطوي مافيوي، و حيث ظل الفساد يترعرع و ينمو عوض بناء اقتصادي وطني قوي إلى أن أضحى النظام عاجزا كليا عن تحمل مسؤولياته الدستورية في توفير أسس و مقومات العيش الكريم و ضمان السلامة النفسية و الروحية و العقلية و الجسدية للمواطنين. و بذلك، تم ترصيص جدار عزل طبقي بين الرأسمالية الفاسدة بكل روافدها و صورها التي تزداد شراسة يوما بعد يوم و بين عامة الشعب التي فقدت الأمل في الحلم و في تحسين أحوالها. أما الطبقة الوسطى التي طالما سمعنا بأنها تشكل مفتاح تحقيق الإنتعاش الإقتصادي و ردم الهوة بين الفوق و التحت، فقد تم تدمير كل مقوماتها و اندحرت إلى القاع غير قادرة على تلبية الحد الأدنى من حاجياتها رغم مؤهلاتها المغربية و المهنية و لم تعد نموذجا لأبناء الفئات المقهورة الذين يرون فيها نموذجا للإفلاس. ذلك، أن تدهور القوة الشرائية لهذه الفئة قد جعلها هي و كل الفئات المأجورة تغرقت في بحر القروض الصغرى التي نسجت خيوطها مافيا المال بإحكام كوسيلة لتعويض جمود المداخيل و تقهقر الأجور و الرواتب في ظل تغطية الفرد الواحد لتكاليف عيش أزيد من عشرة أفراد العائلة الصغيرة و الكبيرة.
و قد بلغت الهوة الطبقية حدا لا يطاق إذا ما قارنا بين دخل الفئات الكادحة التي تعيش على أقل من عشرة دراهم لليوم و بين فئات تنعم بدخل خيالي يعد بملايين السنتيمات يوميا بل بالمليارات بالنسبة لبعض الأسماء. إذ لم يعد ممكنا في مغرب اليوم إمكانية الحديث عن العدل الإجتماعي و عن كينونة مغربية موحدة و هوية مشتركة. فعدم تكافؤ الفرص و تمايز العيش و التمييز أمام القانون و انحياز القضاء للفاسدين ضد الضعفاء أعطى للمغاربة هويات متناقضة تعبر عن ذاتها في كل مجالات الحياة.
و مجرد القيام بعمليات حسابية بسيطة يظهر أن غلاء المعيشة و تطور تكاليف الحياة اليومية من الستينات إلى الآن مقارنة بتطور الأجور قد تضاعف آلاف المرات بحيث لم يعد للزيادة في الأجر أية قيمة من سنة إلى أخرى خصوصا و أن الزيادات لا تحدث إلا مرة في 10 سنوات في أحسن الأحوال.
و لعل تخصص البيروقراطية الإدارية و السياسية في تفقير الدولة و الشعب و تشييد إمبراطورياتها الخاصة قد جعل الإقتصاد المغربي يصاب بالشلل و العجز لمدة ثلاثين سنة الأخيرة حسب ما تظهره بيانات تطور الناتج الإجمالي الوطني و الصادرات مقارنة ببعض الدول العربية القريبة منا أو مقارنة بدول ذات اقتصاديات متطورة. فلقد كان الناتج المحلي المغربي حوالي 15.4 مليار دولار سنة 1982 في وقت كان ناتج تونس هو 08.7 مليار دولار و كوريا الجنوبية 74.5 مليار دولار و الصين 266.2 مليار دولار. و بينما أصبح الناتج المحلي الإجمالي للمغرب سنة 2002 هو 43.7 مليار دولار و ناتج تونس هو 25.1 مليار دولار و كوريا الجنوبية 605.4 مليار و الصين 1434 مليار مما يعني أن الناتج المحلي المغربي قد ارتفع بنسبة 183.8% و تونس 208.6 % و كوريا الجنوبية 712.6 % و الصين 438.7 %. و بذلك يكون الإقتصاد المغربي هو الإقتصاد البطيء من بين جميع الإقتصادات موضوع المقارنة، بل إنه يعد أبطأ 3 مرات من اقتصاد الصين و 5 مرات من اقتصاد كوريا الجنوبية حسب الأرقام أعلاه و التي مصدرها (IMF, International Financial, statisties yearbook, 1900.2004 ).
و يتكرس ضعف الأداء الإقتصادي المغربي بشكل مريب إذا ما تمثلنا القدرة التنافسية لهذا الإقتصاد مقارنة مع اقتصاديات الدول السابقة نفسها حسب بيانات صندوق النقد الدولي. حيث نلاحظ أن صادرات المغرب كانت سنة 1982 حوالي 2006 مليون دولار و صادرات الصين و كوريا 21.9 مليار دولار لكل منهما، فانتقلت صادرات المغرب سنة 2003 إلى 9473 مليون دولار في الوقت الذي بلغت فيه صادرات كل من الصين و كوريا الجنوبية على التوالي سنة 2003 إلى حوالي 438 مليار دولار و 194 مليار دولار. و هذا يعني أنه في الوقت الذي لم تتعد نسبة زيادة صادرات المغرب 359% تضاعفت نسبة زيادة الصين بنحو 1904 % و كوريا الجنوبية بنحو 788 %. فيتضح أن صادرات كوريا الجنوبية زادت بضعفين و زادت صادرات الصين بست مرات مقارنة مع المغرب، بل إن هذا يعني أن صادرات المغرب قد تراجعت بنسبة النصف مقارنة مع صادرات كوريا الجنوبية و تدهورت بأكثر من ست مرات من صادرات الصين.
إن هذا النموذج يمثل صورة مصغرة لتخريب الاقتصاد المغربي نتيجة هيمنة الفساد و إطلاق يد المفسدين طولا و عرضا لاستنزاف خيرات الشعب بلا حسيب و لا رقيب. و يستفاد من ذلك أيضا أن المتعاقبين على إدارة الشأن العام المغربي هم زمرة من منعدمي الكفاءة و الخبرة يتم تعيينهم في كراسي المؤسسات و المسؤوليات دون أدنى استحقاق و إنما انطلاقا من اعتبارات شخصية فردية أو عائلية أو لترضيات سياسية سخيفة. و الغريب في الأمر، بعد أيام، تتضح عدم كفاءتهم و تسقط هالاتهم المفبركة على رؤوس الإشهاد فتزداد ترقياتهم و يتم طمأنتهم فينتقلون من مؤسسة لأخرى و من مدينة لأخرى في تراكم فظيع للسلطة و تزايد رهيب للشطط و الفساد.
و لعل أسوأ ما يدونه واقع الإقتصاد المغربي كمخرج لضعف أحواله و عدم قدرته على المنافسة و التفوق هو اختيار الإنفراد بالمستهلك المغربي و جعله يدفع فاتورة هشاشة الدورة الإقتصادية و تغير معطيات السوق الدولية لتحقيق الربح السريع عن طريق رفع أثمنة السلع أو الغش فيها أو عدم اكتراثها بالمعايير الصحية و البيئية. و لعل عدم استقرار سعر و جودة تسويق الطماطم في الأسواق المغربية في فترات متقاربة من السنة خير مثال على هذا الفساد. بل إن ثمن بيع هذا المنتوج مرتفع في السوق المغربية عن ثمن بيعه بالخارج. و إذا اقتربنا من قطاع النسيج، فإن الصورة تصبح أكثر جلاءا.
و قد أثر هذا الواقع الفاسد على تعبئة الدولة للموارد التي تدير بها حياة المواطنين و تلبي حاجياتهم الضرورية حتى أصبح إنفاق الدولة من الناتج الوطني العام أقل بكثير من الدول المتقدمة و في مستوى لا يليق بسمعة المغرب و بتضحيات المغاربة مقارنة مع الدول التي كنا نظن أننا في مواقع أفضل منها بكثير. ذلك، أن الأرقام المأخوذة عن البنك الدولي و جامعة الدول العربية توضح بأن الإنفاق العام للمغرب في سنة 1990 كان هو 28.8 % و انتقل في سنة 2000 إلى 31.6 % و في سنة 2001 استقر عند 30.9 % بينما انخفض في سنة 2002 إلى 29.5 % و تراجع سنة 2003 إلى 27.9 % في الوقت الذي كان فيه إنفاق الأردن في السنوات نفسها على التوالي هو 35.8 % و 34.2 % و 35 % و 34 % و 35.7 % و تونس هو 34.6 % و 31.4 % و 32.5 % و 31.8% و 32.8% و سورية هو 21.8% و 30.5 و 32.6% و 33.8% و 39.8% و لبنان هو 44% سنة 2000 ثم 29.4% 30.8% و 31.4% و اليمن هو 27.8% ثم 31.2% و 32.5% و 32.6% و 37.1% .
و يلاحظ من خلال الخط البياني لهذه الأرقام أن الإنفاق العام للمغرب من الناتج الوطني ضعيف مقارنة مع أغلب الدول موضوع المقارنة طوال سنوات المقارنة و أنه يسير في اتجاه منحدر من سنة 2000 إلى سنة 2003 بينما يرتفع الإنفاق العام للدول المذكورة.
و يزداد الوضع مأساوية حين نعلم أن الإنفاق العام لدولة مثل جيبوتي قد تفوق على المغرب. حيث نجد أن دولة جيبوتي انتقلت من 32.8% سنة 2000 إلى 36.5% سنة 2003 في الوقت الذي انحدر فيه المغرب إلى 27.9%.
و في الوقت الذي ارتفع فيه خطاب رسمي ديماغوجي يبرر هذا الوضع المزري الذي يؤدي فيه المواطن الكادح و البسيط ثمن الحياة باهضا حيث يتم القول إن الدولة الحديثة لم تعد مطالبة بالتعبئة المالية و تحمل تبعات الإنفاق العام. بحيث، نجد الدول المتقدمة لا تزال تلعب دورا أساسيا و استراتيجيا في تلبية حاجيات المواطنين. فإذا كان المغرب قد تراجع سنة 2003 إلى 27.9%، فإن بريطانيا تحملت 39.2% و فرنسا و صلت إلى 48.1% و إيطاليا لم تنزل عن 39.6% و السويد عن 37.2% و النامسا عن 43.2% علما بأن اقتصاديات هذه الدول تعرف دورات نمو إيجابية، محصنة بالشفافية، و مدعومة بتغطية صحية شاملة و تتوفر على بنيات أساسية لا علاقة لها بالبنية الأساسية للمغرب.
و لا يمكن أن ننسى بأن حجم الإنفاق العام للمغرب قد كان على حساب بيع مجموعة من المؤسسات العمومية المربحة التي استفادت منها الرأسمالية الفاسدة و لم يأت من خلال نمو اقتصادي أو دورة اقتصادية منتجة. بحيث، يتضح أن مسلسل تفقير الدولة، بفعل الفساد، دفع الدولة إلى مزيد من بيع ممتلكاتها العامة لتسديد نفقات جارية دون إمكانية استثمار العائدات في أنشطة اقتصادية مفيدة قد تجعل الدولة تسترجع توازنها يوما ما بل العكس هو الذي يحدث. بحيث كلما تعرت الدولة كلما التهم الفساد مؤسسات عمومية جديدة باسم الخوصصة و باسم المنافسة و كلما اتسعت رقعة الإحتكار دون التمكن من خلق فرص شغل جديدة.
و إذا ما تتبعنا مسار انتقال الأموال العامة إلى أموال خاصة و خروج السوق من يد الدولة إلى يد لوبيات احتكارية فاسدة يتأكد عدم تحكم الدولة في تسليم البضائع و الخدمات الأساسية للمواطنين مما ينعكس على نمط توزيع الدخل. و لعل استحضار النقاش الذي دار حول تسعير الأدوية و حول ارتفاع أثمنتها مقارنة بدول مثل فرنسا خير دليل على ترك الدولة للوبيات حرية نهب المواطنين و تخريب صحتهم. إذ، في الوقت الذي يحقق فيه الرأسماليون الفاسدون أرباحا خيالية غير مشروعة يتراجع دخل الطبقة الوسطى و الموظفين و المأجورين. و هكذا، تم تسليم فئات عريضة من الشعب لرأسمالية عائلية فاسدة تسلخ جلدها و هي حية بلا رحمة. أما المتربعون على كراسي المسؤوليات الفخمة من أصحاب البدل المزركشة بالنياشين دون أن يخوضوا و لو معركة واحدة سوى معارك قمع المغاربة في 1981 و 1984 و 1990. فإن أجورهم خيالية بسبب تضاعف الحوافز و الامتيازات عشرات المرات بالنسبة للراتب الأساسي في الوقت الذي لا يمكن أن تتعدى الحوافز نصف الراتب الأساسي في الدول الديمقراطية. بيد، إن الجميع يعلم أن أصحاب الرواتب الخيالية خلقوا حفاة و عراة و تطاولوا على أهم الضيعات و احتكروا رخص الصيد في أعالي البحار و شيدوا مقاولات عملاقة من لاشيء. على أنه توجد فئة أخرى قريبة من تلك ذات رواتب عادية لكنها تنعم بامتيازات إدارية غير محدودة و تشكل آلية فساد إداري رهيب بحكم مواقعها في الإدارة الترابية و الأمن و القضاء و بحكم ما تنعم به من سلطات فوق القانون.
و طيلة عقود من الزمن لم تستطع الدولة المغربية التحكم في الموازنة العامة و بدأت تلجأ إلى الحل السحري المتمثل في مزيد من الإقتراض رغم تحذير والي بنك المغرب من خطورة عدم التحكم في التضخم. فلقد تم دفع الفرق البرلمانية إلى عدم مناقشة ميزانية السنة الجارية و إلى التصويت عليها و اعتبار كل نقاش لها من قبيل الديماغوجية.
و يزداد الوضع فسادا حين نعلم أن أهم مداخيل الدولة و مؤسساتها تأتي من الضريبة على الدخل و التي يدفعها أصحاب الدخل المحدود أو الثابت من ذوي الأنشطة الصغيرة و الحرفيين و الرواتب و الأجور خاصة نظرا لسهولة اقتطاعها بغير حق شهريا من المنبع دون أن تكون لهم آليات استرجاع حقوق و لوازم ضرورية للعمل و السكن. و في ظل هذا الواقع نجد الموظف يدفع مبالغ مالية ضريبية أكثر من صاحب الشركة. على أن فئات أخرى من شركاء الرأسمالية الفاسدة تتوفر على كل الطرق و الحيل للتهرب الضريبي و التحايل عليه. في حين تنعم الرأسمالية العائلية الفاسدة بالتملص الضريبي من تسديد الملايير دون أن تطالها المساءلة و لا يجد القضاء مبررا لتحريك المساطر و استرجاع أموال الدولة حتى و إن برزت العديد من الحالات و النماذج و الأسماء للتداول العمومي على صفحات الجرائد و دورات المجالس. بيد، إن هؤلاء لا يكتفون بالتهرب الضريبي و إنما يستفيدون منه قبل إنجاز المشاريع الوهمية و ينعمون بامتيازات عقارية و مالية و لوجيستيكية و فنية مريبة.
و كيف يمكن أن يؤدي هؤلاء الأموال العامة المتراكمة عليهم و هم لم يردوا القروض البنكية و الفوائد و لا يقومون بإنهاء المشاريع و باحترام دفاتر التحمل و مواصفات الأعمال و الخدمات الجيدة و المتفق عليها و التي يحصلون عليها بطرق غير مشروعة؟ و في ظل سرطان الفساد الاقتصادي و المالي هذا برز نجم أشخاص يراكمون الأموال دون أن يقوموا بأعمال أو يقدموا خدمات. فهناك من تخصص في حركية البورصة و أصبح لاعب شطرنج خارق للعادة يراكم الأرباح من فراغ و يصنع الأرصدة دون أن يحمل مشروعا واحدا. و لعل مناورات البورصة لا تترك للمؤسسات الصغرى فرص التباري الأخلاقي و تتحول إلى طعم سائغ لمافيا المؤشرات الوهمية التي لا تتوفر على مرجعيات و موارد موازية.
كما أن حلبة الكسب غير المشروع تنتعش جيدا في ظل تعدد المساطر و بطء معالجة الملفات التي تراكم المشاكل و تعطي الفرص لمحترفي الرشوة و مبدعي الترامي على حقوق و ممتلكات الغير حتى يتمكنوا من نسج خيوطهم و رمي شباكهم على الضحايا.
و عموما، يمكن القول إن الآثار السلبية لترامي الرأسمالية العائلية الفاسدة على الحقوق و الممتلكات و الأموال العامة للدولة و المستضعفين على مدى 5 عقود على الأقل دون أن تكتسب القدرة على الدخول في نادي الرأسمالية المنتجة و دون أن تستطيع تملك تقاليد السوق و المنافسة و الإنتاج و غير قادرة على إنعاش الدورة الاقتصادية، بل و نظرا لأن الرأسمالية الفاسدة لم تكرس سوى تقاليد النهب و أعراف الفساد و معايير الغش و حيل لا أخلاقية للتعاطي مع قضايا البلاد و مجردة من كل إحساس بالمواطنة و بالمواطن، فإن سرطان البطالة و التفقير قد تجاوز كل الحدود. فلقد أصبحنا نتفرج على مآسي البسطاء في برنامج "الخيط الأبيض" دون أن يستطيع أحد القول بأن عجز الاقتصاد المغربي عن توفير مناصب الشغل و تقاعس الدولة عن توفير سبل العيش الكريم للفقراء قد تجعل أبناء الأسرة الواحدة يأكلون بعضهم البعض حتى يظفر كل واحد منهم بالإرث الذي يضمن له العيش الكريم في ظل غياب فرص العمل و عدم الإحساس بالكرامة. كما أننا نتفنن في سلخ المؤسسة التعليمية العمومية دون أن تكون لدينا شجاعة إبراز الوضع المزري لنساء و رجال التعليم الذين هجروا الأقسام و المدرجات و المختبرات و احترفوا الدروس الخصوصية أو التدريس بالتعليم الخصوصي تعويضا للنزيف الحاد الذي أصاب رواتبهم و طال أوضاعهم المعيشية و الاجتماعية.
لقد تفننت الرأسمالية الفاسدة في تجريد الدولة من أصولها العامة أموالا و ممتلكات و خدمات و سلب حقوق الفقراء. فطال فسادها كل القيم و السلوكات حيث تتحمل مسؤولية مظاهر العنف الجنائي و الأسري و كل تجليات عقاب الذات و الانتقام التي تفشت في المجتمع من جراء الكسب غير المشروع و الإحساس بالحكرة و غياب الكرامة.
و قد شكل الشباب و المتعلمون و أصحاب الشهادات الفئة الأكثر تأثرا بهذا الواقع حيث أغلقت في وجوههم كل منافذ تحقيق الذات و العطاء و الإبداع و المساهمة في التنمية الشاملة في زمن تراكم المسؤوليات و التوزيع غير العادل للدخل.
إن رفع النظام المغربي ليد الدولة عن التكفل بضبط دينامية الإقتصاد المغربي من خلال سياسة تحرير الاقتصاد لتتصرف فيه الرأسمالية الفاسدة و القطاع الخاص بحرية مفرطة دون أن تتمكن من بناء اقتصاد وطني متين جعل الاقتصاد الوطني يتعرض لاستنزاف داخلي حاد نظرا لكون الرأسمالية الفاسدة استغلت الفرصة لتحقيق أرباح خيالية و سريعة دون أن يقابلها إنتاج مفيد أو إبداع و بفعل سيطرة الأنشطة الصناعية و العمليات التجارية و الخدماتية الوهمية و غير السليمة و المغشوشة أو الناقصة . و قد عجل هاجس بناء امبراطوريات مالية عائلية على إقصاء كلي للبعد الاجتماعي و البيئي من منظومة الإنتاج بأكملها, بل غابت المصلحة العامة كليا لتحضر المصلحة الخاصة. و في ظرف وجيز سرقت الرأسمالية الفاسدة من الدولة المغربية جميع أرصدتها و مقوماتها و احتياطاتها الاقتصادية و المالية و أغرقتها في قروض متنوعة و خطيرة جعلت الاقتصاد يتعرض لاضطرابات متنوعة و هزات متتالية . بيد، إن غياب روح المواطنة و عدم الاكتراث بالمصلحة العامة للبلاد جعل لوبيات الفساد تستغل النزيف و الهزات لتقوي عمليات الفساد البرصوي لأنها تعرف بأن نجاح مضاربات البورصة يقوم على اضطراب الإقتصاد و عدم استقرار الأوضاع.
إن تقويض واقع حال المنظومة الإقتصادية المغربية رهين بتنمية و تطوير القطاع العام بكل مؤسساته و التصدي للفساد بحزم و قوة و إخضاع الممتلكات المالية لرقابة شعبية تعطي لكل مغربي و مغربية حرية تحريك الدعاوي ضد المفسدين و ضد كل من تدخل تصرفاتهم و معاملاتهم منطقة الشك.
و لعل تخلص الدولة من توصيات المؤسسات المالية الأجنبية التي تطالب بتحرير الإقتصاد و بتقليص دور الدولة في الأنشطة الإقتصادية تعد اليوم مسألة استراتيجية لا محيد عنها حتى تتمكن الدولة من إعطاء الإقتصاد الوطني و المؤسسات العمومية دينامية جديدة كفيلة بخلق فرص الشغل و تغطية النفقات الإجتماعية من صحة و سكن و تعليم لجميع المغاربة بغية تأهيلهم لاستثمار قدراتهم البشرية و المعنوية كاملة و الخروج من دائرة الفقر و الهشاشة و القطع مع الديون الداخلية و الخارجية لتحرير القرارات الإقتصادية للدولة و سياساتها التنموية من الضغوط الأجنبية.
غير أن هذا الحلم البسيط لمغاربة الألفية الثالثة و لشباب متعلم مدفوع قسرا للانتحار اليومي البطيء و لركوب قوارب الموت و الهجرة التي يوظفها النظام لصالحه في معاملاته مع الغرب, سيظل حلما مستعصيا على التحقق إلا في دولة ديمقراطية حقيقية غير قابلة للتصرف أو التجزيء و قوامها دستور ديمقراطي يفصل فصلا حقيقيا بين السلط و يجعل القضاء سلطة مستقلة قائمة الذات و محررة من التعليمات و إعمال مبدأ المحاسبة و المساءلة الذي يشمل الكبير و الصغير و الرئيس و المرؤوس من أعلى سدة الحكم إلى أدناه و تخليق الحياة العامة و تعميم الشفافية و النزاهة و الكفاءة و الاستحقاق و فصل السلطة عن الثروة و محاربة الاحتكار و الإعفاءات الضريبية غير المبررة و وضع حد للامتيازات المالية و المادية و استرجاع ممتلكات و أموال الدولة و كل التراخيص و ترشيد النفقات العامة و ربط الإقتصاد بالبعد الاجتماعي و جعل الشباب قاطرة البلاد في التنمية السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و تنقية المؤسسات التشريعية و التنفيذية و الهيئات العامة من وجوه أصبحت تعد كابوسا لجميع المغاربة و لم تعد لها مكانة في مغرب اليوم نظرا لمسؤولياتها التاريخية عن نهب البلاد و تخريب العباد.
و حتى نكون عقلانيين و منطقيين نؤكد أن حل مسألة الفساد الاقتصادي و دمقرطة الحياة العامة من خلال دستور ديمقراطي يتعذر تحقيقها ما لم يتغير المقدس من الثابت إلى المتحول و من الفرد إلى الجماعة و من المتحرر إلى المحرر و من المنفلت إلى المسؤول. ساعتها ينعم المغاربة بالإعتراف لهم كمواطنين كاملي الهوية و كبشر يستحقون التكريم في هذه الحياة حيث يخرجون من دائرة القطيع ليصنعوا تاريخا جديدا يقطع مع إرهاب الدولة و الفقر و البطالة و ينعمون بحياة كريمة تحترم فيها إنسانية الإنسان و يكرم فيها الإستحقاق لا الولاء و الإنتاج لا الفساد.