"علم الكلام" صحراء ملآى بالعظام اليابسة!
(هذه المقالة مُهداة إلى محمد أركون)
حازم خيري
"إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
وأخري تملأ سراجي زيت
وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
وإذا بي أبصر اثار أقدام
هنا وهناك
فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!"
ميخائيل نعيمة
ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما ـ تبقى ـ في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لايعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.
ثمة بون شاسع وفرق عظيم ـ فيما يرى سعادة ـ بين الحياة والعيش! الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل، وما أكثر العيش في الذل حولنا! فكرنا الأنسني بدوره يرى ان الحضارة هي ما يُفكر فيه الناس ويُحسون به ويفعلونه، وهي القيم التي يضفونها على ما يُفكرون فيه ويحسون به ويفعلونه. صحيح ان أفكارهم ومختلف إحساساتهم وقيمهم يمكن أن تنتهي إلى أعمال تؤثر تأثيراً عميقاً في استعمالهم للأشياء المادية، غير أن الحضارة المادية أقل جانب من جوانب الحضارة أهمية. فالسمو الحضاري لا يبلغ ذروته إلا في عقول الناس وأفئدتهم(4)!
قال حكيم: إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! وليس هناك ما يؤدي إلى مثل هذا الرقي كـ"التربية الخلاقة"، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على النقد والابتكار. حق الإنسان في الحياة هو حقه في دفعها للأمام.
مثل هذه "التربية الخلاقة" لا توجد للأسف الشديد في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف! فنظمنا التربوية المُغرضة تستأصل ـ بكل دربة ودأب ـ من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! غرس اليقين في العقول والقلوب صيرنا "أمة من غنم"!
ولمن يسأل: كيف يمكن إذن تفسير ذلك التعامي الواضح، من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا، عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، بل وذهابهم في هذا التعامي إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟! في هذه المقالة أحاول قدر جهدي التحقق من مدى وجاهة طرح مثل هذه التساؤلات، عبر استكشاف "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على معلمي "الفلسفة" في بلادنا، كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!
مُصطلح "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
يُستخدم مصطلح "الكلام" ـ الذي يعني حرفياً "الحديث" أو "اللفظ المنطوق" ـ في الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية للتعبير عن المصطلح اليوناني "لوجوس Logos" بكل معانيه المتنوعة الدالة على: "الكلمةWord " و"العقل Reason" و"الحُجة Argument". ويُستخدم مُصطلح "الكلام" في تلك الترجمات العربية كذلك للدلالة على أي فرع من فروع التعليم. واسم الفاعل "متكلمون"(في صيغة الجمع، والمفرد منه: "متكلم") يُستخدم للدلالة على الشيوخ الممثلين لأي فرع مخصوص من فروع التعليم. من هنا ظهرت ترجمات عربية(عن اليونانية) من قبيل: الكلام الطبيعي، أصحاب الكلام الطبيعي، المتكلمون في الطبيعيات، أصحاب الكلام الإلهي، المتكلمون في الإلهيات،..الخ. وبهذا المعنى أصبح مصطلح "الكلام" يُستخدم عند من يكتبون بالعربية أصلاً، ربما بتأثير من هذه الترجمات العربية عن اليونانية.
على هذا النحو ـ وطبقاً للمستشرق ولفسون(5) ـ يتحدث يحيي بن عدي عن المتكلمين المسيحيين. ويتحدث الشهرستاني عن كلام إمبدوقليس وكلام أرسطوطاليس وكلام المسيحيين في كيفية التجسد والاتحاد. ويتحدث يهودا اللاوي عن قوم ينتمون إلى نفس مدرسة المتكلمين أمثال أصحاب مدرسة فيثاغورس ومدرسة إمبدوقليس ومدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون، أو عن الرواقيين وعن فلاسفة آخرين وعن المشائين الذين ينتمون إلى مدرسة أرسطو. ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملة الاسلام ومن أهل ملة النصارى أو على حد تعبيره المتكلمون من أهل الملل الثلاث. ويتحدث موسى بن ميمون عن المتكلمين الأُول من اليونانيين المتنصرين ومن المسلمين. ويتحدث ابن خلدون عن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..
إضافة إلى هذا كله طُبق مصطلح "الكلام" دونما تقييد على نسق مُعين من التفكير في الحضارة الإسلامية ظهر قبل ظهور الفلاسفة، سُمي أعلامه بـ"المتكلمين"، وكانوا على النقيض من أولئك المفكرين الذين أطلق عليهم ببساطة منذ زمان أبو يوسف الكندي اسم الفلاسفة(6). فكيف ظهر في ثقافتنا العربية هذا النسق من التفكير الذي يوصف ببساطة بأنه "كلام"؟ وما الكتابات التي تتناول تاريخه ويمكن أن تُضم معاً؟ الأفكار كالبشر، لحظات الميلاد ومراحل التطور هما السبيل لمن أراد فهمها!
في كتابه القيم "فلسفة المتكلمين في الإسلام"، وُفق هاري ولفسون في ضم كتابات الشهرستاني وابن خلدون(7)، وخرج لنا بعرض وافٍ لتطور علم الكلام في الحضارة الإسلامية، اعتمد عليه أساساً هنا، لخلو مكتبتنا العربية ـ على ما يبدو ـ من دراسات تُماثل في قيمتها، أو على الأقل تقترب من عمل ولفسون الموسوعي المهيب. ولشد ما يُخجلني استقرار مفاتيح إرثنا الحضاري في يد المستشرقين! كل ما املكه هو توخي الحذر قدر المستطاع، فولفسون وأمثاله إنما يخدمون حضارتهم!
ظهور وتطور "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
"السلف" مُصطلح أطلق على صحابة النبي محمد(570ـ632م) وعلى التابعين الذين صحبوا الصحابة. وما وافق عليه هؤلاء السلف يُعد أساساً للعصر الأول للحضارة الإسلامية. وسوف نُشير ـ هنا ـ إلى "السلف" إما على أنهم الأتباع الأول لدين الإسلام أو على أنهم أصحاب الفهم الصحيح للدين. كلٌ حسبما يقتضيه السياق.
يشتمل الأصل الديني للاسلام الذي تشكل من تعاليم القرآن على نوعين من التكاليف، وفق ما يرى ابن خلدون: الأول التكاليف البدنية، والثاني التكاليف القلبية.
يحتوي القسم الأول على الأحكام الإلهية التي تحدد تكاليف أبدان المسلمين وهذا هو الفقه. هو مصطلح يفيد في معناه الأصلي الفهم والمعرفة، واستخدم في أول الأمر بمعنى محدود هو الاجتهاد، أي استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعية في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة، لكنه اكتسب فيما بعد المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على: القرآن، السنة، القياس، الإجماع.
القسم الثاني من التكاليف يتعلق بالإيمان الذي يُعرف بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان. ويتكون من عقائد ست تقررت في الدين تبعاً لحديث النبي نفسه حينما سُئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. مُناقشة تلك العقائد الإيمانية هي التي تُشكل "علم الكلام".
[1] مرحلة علم الكلام السابق على الاعتزال:
لا يوجد فيما يرى ولفسون ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ "الكلام" يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي. غير أننا وبحسب ولفسون نفهم من عبارات الشهرستاني انه كان هناك "علم كلام" سابق على نشأة الاعتزال على يد واصل ابن عطاء(699ـ748م) وأن رونق الكلام ابتدأ من عهد هارون الرشيد(786ـ809م).
وربما يمكن أيضاً الاستدلال على وجود كلام سابق على الكلام الاعتزالي من استخدام مصطلح "المتكلمين" عند ابن سعد(764/765ـ854م) في الإشارة إلى أولئك الذين كانوا يناقشون وضع مرتكبي الكبيرة في الإسلام الذي أثارته فرقة المرجئة السابقة على الاعتزال. ومن استخدام مصطلح "يتكلم" عند ابن قتيبة(828ـ889م) فيما يتعلق بمناقشة مسألة حرية الإرادة عند غيلان الدمشقي السابق على المعتزلة.
في سياق توضيحه لكيفية تأسس "علم الكلام" عند أولئك المتكلمين الذين ازدهروا قبل قيام الاعتزال، وعلى أي نحو كان ذلك التأسيس، يصف لنا ولفسون ـ استناداً إلى ابن خلدون ـ الأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية قبل المعتزلة بقوله ان الاختلافات حول مسائل العقائد أدت إلى قيام "علم الكلام"، فالمشاركون في مناقشة مشكلات من قبيل: التشبيه، والقدر، ومرتكب الكبيرة، وموقف "أصحاب الجمل" من الفريقين، بدلاً من مجرد اقتباس نصوص من القرآن والسنة دفاعاً عن آرائهم، استخدموا منهجاً معيناً في الاستدلال، توصلوا به إلى استدلالات من نصوص القرآن والسنة تلك. كان ذلك المنهج الاستدلالي مُستعاراً من الفقه، حيث كان مستخدماً فيما يتعلق بمسائل الشرع التى كانت تحكم الفعل، وكان معروفاً بمنهج القياس "بمعنى المماثلة". أما بالنسبة لمسائل الاعتقاد التى أصبح يطبق عليها حديثاً منهج القياس هذا فكانت مسائل تتصل بـ"الكلمة المنطوقة"، وأصبح هذا التطبيق الحادث لمنهج القياس يسمى "الكلام"، أى ما يُقصد حرفياً من "الكلام المنطوق". والمنهج قائم، سواء في الفقه أو الكلام، على مجرد التشابه وأدلته مستمدة من النقل.
الفرق التى ظهرت في حضارتنا الاسلامية كثيرة، وأكثر منها الاختلافات حول مسائل العقيدة. غير أن ولفسون، ولأغراض دراسته لفلسفة المتكلمين في حضارتنا، تناول اختلافات بعينها، تتعلق بمسألتين ايمانيتين: الايمان بالله، أى الايمان بالتصور الصحيح عن الله. والايمان بالقدر، أى الايمان بسلطان الله على الأفعال الانسانية. فلقد ظهرت، فيما يتعلق بهاتين المسألتين الايمانيتين، اختلافات في حضارتنا حتى قبل قيام الاعتزال، وهي الاختلافات التي أدت إلى مجالات عُرفت اصطلاحاً بـ"الكلام".
وبحسب ابن خلدون، كانت اختلافات السابقين على المعتزلة عن التصور الصحيح عن الله هي تلك التى تتعلق بآيات التشبيه في القرآن. وكان مصدر الاختلافات الأوصاف التى وُصف الله بها في القرآن. فمن ناحية ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في أكثر من آية، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها(8). ومن ناحية أخرى، وردت في القرآن آي أخرى توهم التشبيه. هذه الآيات والتى قد يراها البعض متباينة أدت بحسب ابن خلدون إلى آراء ثلاثة: أولاً، سلم السلف ـ الذين غلبوا أدلة التنزيه ـ بآيات التشبيه في القرآن، فلم يتعرضوا لمعناها بتأويل، لأنهم فيما يرى ابن خلدون علموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. ثانياًً، بجانب أولئك الذين تبنوا الرأي السابق، وُجدت قلة من "المبتدعة"(9). منهم فرقتان رئيسيتان: توغلت الأولى في التشبيه الصريح مخالفة بذلك آي التنزيه المطلق. أما الثانية فحاولت التوفيق، ومن هنا ظهر التأويل من خلال صيغة: جسم لا كالأجسام.
الاختلاف الثاني الذى ظهر قبل نشأة المعتزلة هو ـ فيما يرى الشهرستاني وابن خلدون ـ ما كان يتعلق بالاعتقاد بقدرة الله. وهذا الاختلاف نتج أيضاً عن الآيات القرآنية حول قدرة الله. فمن ناحية، توجد آيات تقرر أن هناك بعض وقائع الحياة الانسانية وبعض أفعال الانسان مقدرة من الله سلفاً، على حين توجد آيات تقرر أن الانسان يتمتع بحرية معينة يمارس بها أفعاله، من ناحية أخرى. ووفقاً لما يقرره الشهرستاني فإن الرأي الأصيل فى الاتباع تمثل في اتباع تلك الآيات التى تُظهر أن القدرة المهيمنة على الفعل الانساني مرجعها إلى الله. وفي أواخر عهد الصحابة، حدثت بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وانكار إضافة الخير والشر إلى القدر. ولأنهم حولوا القدر من الله إلى الانسان زاعمين أن الانسان، وليس الله هو الذى يحدد أفعاله الخاصة، عُرفوا بـ"القدرية". وعلى ذلك، يشير ولفسون إلى هاتين الفرقتين على أنهما: فرقة القائلين بالاختيار "القدريين"، وفرقة القائلين بالجبر "سبق التقدير". والفرقتان حاولتا تفسير الآيات المعارضه لهما.
قارئي الكريم، في مسيره الشاق والمُرهق نحو اللحظة الراهنة، مر علم الكلام بأكثر من مرحلة، تميزت شخصية كل منها عن الأخرى. البداية ـ وكما سنرى لاحقاً ـ كانت مع علم الكلام المعتزلي(بفترتيه: غير الفلسفية، والفلسفية)، ومن بعده جاءت محاولات الخلفاء لحمل أئمة السلف على الاعتزال ـ وهو ما عُرف بـ"المحنة" ـ، ثم ردود الفعل على هذه المحاولات العنيفة وظهور علم الكلام الأشعري، وما طرأ عليه بعد ذلك من تغييرات أحدثها الباقلاني والغزالي، وأخيراً نهوض ابن تيمية وابن القيم لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة.
[2] مرحلة علم الكلام المعتزلي:
لشد ما يصعب ـ بحسب المستشرق نلينو(10) ـ معرفة لأى سبب وبأي معنى أطلق لفظ "المعتزلة" أول ما أطلق على أصحاب المذهب الذى كان في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة خصماً خطراً لمذهب أهل السنة في "الكلام". ذلك لأنه يتوقف على مثل هذه المعرفة حل مسألة من أهم المسائل التاريخية، وهي مسألة أصول حركة المعتزلة، وطابعها الأصلي. نلينو يُعرفنا بأشهر الآراء في هذا الصدد(11):
الرأي الأول: رواية نُسج حولها طائفة من الأقاصيص، يشتق أصحابها اسم المعتزلة من اعتزال واصل ابن عطاء الغزال(أو اعتزال عمرو بن عبيد بن باب في رواية أخرى) للحسن البصري(642ـ728م) أو اعتزاله للجماعة عموماً في مسألة مرتكب الكبيرة: مؤمن هو أم كافر؟ والتفاصيل تختلف قليلاً باختلاف الروايات. فعلى حسب بعضها، جاء اسم المعتزلة من العبارة التي قالها الحسن في تلك المناسبة لتلميذه القديم: "اعتزل عنا". وعلى حسب البعض الآخر، كان قتادة بن دعامة المتوفي عام 117هـ أو 118هـ المحدث أول من وضع هذا الاسم، مشيراً إلى عمرو بن عبيد وإلى نفر من اتباعه بسبب اعتزالهم الحسن. وعلى كل حال، فمهما يكن من اختلاف الروايات، فإن هذه الروايات في مجملها تعتبر أن لفظ "المعتزلة" اسم أطلقه عليهم أهل السنة، وأنه يتضمن نوعاً من الذم واتهاماً واضحاً بالخروج على السنة والجماعة.
الرأي الثاني: المستشرق اشتينر(12)، واعتماداً على نصوص عربية متأخرة عن القرن الثالث الهجري تسمي المعتزلة أحياناً باسم "القدرية"، يرى أن المعتزلة اسم عام لفئة انفصلت عن الجمهور وانشقت عليه، ولكن بمضي الزمن أصبح هذا الاسم في أوائل القرن الثاني للهجرة علماً على مذهب خاص. وهو ما قد يُفسر على أن هذه الفرقة كانت من بين فرق الاسلام أهمها وأكبرها خطراً. أيضاً يبدو لاشتينر أن هذه التسمية قد انتشرت انتشاراً بطيئاً. إذ يتكلم ابن قتيبة المتوفي 889م عند ذكره لمذاهب عصره لا عن المعتزلة بل عن "القدرية". مع أنه عرف اسم المعتزلة. وعلى ذلك فالنواة الأولى لمذهب المعتزلة كانت اذاًً انكار القدر المطلق، ويشير لفظ "القدرية" إلى مضمون المذهب، فهو من الناحية الظاهرية الشكلية إذاً أكثر تحديداً وأوضح دلالة من لفظ "معتزلة". ثم لما أظهروا آراء مخالفة في مسائل عديدة أخرى مثل صفات الله، وطبيعة القرآن، والوعد والوعيد، ومسائل ثانوية أخرى، بدت هذه التسمية ـ "القدرية" ـ غير كافية، لذا استبدل بها لفظ "معتزلة"، ولم تعد بعد ذلك تستعمل شيئاً فشيئاً.
الرأي الثالث: المستشرق اجنتس جولدتسهير(13) يشير ـ كما يشير المؤرخون ـ، بمناسبة بن عطاء وزميله بن عبيد ومعتزلين آخرين متأخرين كذلك، إلى ميولهم الصوفية وزهدهم، أى إلى بعدهم عن زخرف الدنيا وشهواتها، ويورد شاهداً قديماً على استعمال لفظ "معتزل" بمعنى زاهد أو متعبد. يقول جولدتسهير: "معنى هذه الكلمة(المنشقون). ولست أريد أن أكرر هنا الأسطورة التى عني الناس بروايتها من أجل تبرير هذه التسمية، وانما أريد أن أقرر أن التفسير الحقيقي لهذه التسمية هو أن البذور الأولى لهذا المذهب كانت دوافع صادرة عن التقوى والتعبد وكان الباعثون على هذه الحركة رجالاً متعبدين، زهاداً معتزلين(زاهدين) ثم اتصلت الحركة بالدوائر العقلية، فاتخذت شيئاً فشيئاً موقف المعارضة بإزاء المعتقدات الدينية السائدة"
الرأي الرابع وهو رأي نلينو نفسه: اختار المعتزلة الأولون هذا الاسم، أو على الأقل تقبلوه، بمعنى "المحايدين" أو "الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنة والخوارج) على الآخر" في المسألة الدينية الخطيرة، مسألة "الفاسق". وما دامت هذه المسألة قد أخذت حظها من الأهمية بسبب المنازعات السياسية والحروب الأهلية في القرن الأول للهجرة، فمن الطبيعي أن يكون اسم المعتزلة قد أُخذ عن لغة السياسة في ذلك العصر. فكان المعتزلة الجدد المتكلمون في الأصل استمراراً في ميدان الفكر والنظر، للمعتزلة السياسيين أو العمليين. كانت الجماعة الأولى من المعتزلة المتكلمين تشمل على وجه الاحتمال أشخاصاً اختلفت آراؤهم حول بعض المسائل الدينية الأخرى. حتى انه في القرن الأول وأوائل القرن الثاني كانت بعض المسائل الدينية(مثل الجبر والاختيار) غير واضحة المعالم والحدود، ولم يكن من المستطاع القطع بأي الآراء المتعارضة يجب اعتباره من أقوال أهل السنة أو أقوال غيرهم. فلم يكن الاجماع قد تم في هذا الباب بطريقة قطعية. فكان اسم المعتزلة المتكلمين في الأصل يشير إذاً إلى النقطة الوحيدة المميزة لمذهبهم عن مذهب أهل السنة والجماعة. وهذه النقطة قد فقدت أهميتها من بعد بانقضاء الحروب الأهلية بالنسبة لمسائل الخلاف الدينية الأخرى(القدرة، الصفات، خلق القرآن، النقل والعقل)، التى رسخت شيئاً فشيئاً، وطغت على تلك النقطة من جراء رد الفعل المتزايد ضد ثبات أهل السنة ورسوخه. أو بعبارة أخرى كانت هذه التسمية تسمية جزئية في وقت من الأوقات مثل تلك التى اتخذها المعتزلة من بعد أحياناً للدلالة على بعض النقط الخاصة في تعاليمهم دلالة خاصة، مثل "القدرية"، "العدلية"، "الموحدة".
على أية حال، وبدون التوقف كثيراً عند هذه الآراء المتباينة حول أصل تسمية المعتزلة، يرى ولفسون أن مرحلة علم الكلام المعتزلي غير الفلسفي دامت قرابة القرن، من وقت ظهور المعتزلة وحتى ظهور ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي. ثم حدث، بعد انقضاء قرن على زمن بن عطاء، أن تأثرت المعتزلة بالفلسفة اليونانية واكتسبت طابعاً جديداً.
"ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فُسرت أيام المأمون. فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من العلم وسمتها باسم الكلام. إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسُمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق. والمنطق والكلام مترادفان(كما أن الكلمة اليونانيةLogos ، أي العقل والمنطق، تعني أيضاً الكلام)".
يُلاحظ في فقرة الشهرستاني هذه أن مذهب الاعتزال يتوزع بين فترتين: فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية. في الفترة الأولى السابقة على التأثر بالفلسفة اليونانية استخدم المعتزلة ما يوصف بأنه مناهج الكلام. والتى يرى ولفسون أن الشهرستاني يشير بها إلى تلك التطبيقات المتنوعة للقياس الفقهي على الاختلافات التى ظهرت، في نطاق ما يُسمى بالكلام قبل الاعتزال، حول مسألتين: الأولى، مسألة التصور الصحيح عن الله، خاصة مشكلة التشبيه. الثانية، مسألة الاعتقاد في القدرة.
رأي ولفسون هذا يتسق مع وصفه للأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الاسلامية قبل قيام الاعتزال، ذلك الذى أوردناه فيما سبق بشيء من التفصيل، في سياق عرضنا لكيفية تأسس علم الكلام عند متكلمي ما قبل الاعتزال.
أما مناهج الفلاسفة التي يشير الشهرستاني في حديثه إلى خلط المعتزلة اياها بمناهج الكلام، فيرى ولفسون امكانية الزعم بأن الشهرستاني كان يقصد بها أمرين:
أولاً، ربما كان يقصد أن المعتزلة ـ بتأثير من الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية ـ، قد بدأوا يستخدمون مصطلح القياس المرادف لكلمة syllogism(14)، أما عن مصطلح القياس بالمعنى القديم للمماثلة analogy المستخدم في الفقه فإنهم أحلوا محله مصطلح التمثيل. تبرير هذا الافتراض هو أن آخرين من الذين خضعوا لتأثير هذه الترجمات من المسلمين قد بدلوا معنى القياس الذى يدل عليه لفظ المماثلة analogy إلى القياس الذى يدل عليه لفظsyllogism . وأحلوا محل القياس بمعناه الفقهي القديم مصطلح التمثيل.هكذا نجد ابن سينا والغزالي على سبيل المثال، يستخدمان القياس بمعنى syllogism والتمثيل بمعنى الـanalogy ـ الذى يقوم استخدامه في الفقه على أساس التشابه بين الأشياء ـ. وبعد ذكر مصطلح التمثيل يلاحظ ابن سينا أن هذا هو الذى عرفه أهل زمانه بالقياس، ويلاحظ الغزالي أن هذا هو الذى يسميه شيوخ الفقه وشيوخ الكلام القياس.
ثانياً، يمكن افتراض أن الشهرستاني كان يقصد بكلامه أيضاً أن المعتزلة المتفلسفين قد أصبحوا على دراية بتصور أرسطو للـanalogy وهو ما عُبر عنه في العربية بـ"المساواة"، وخلطوه بالقياس الفقهي الذى أصبح المصطلح العربي الجديد الدال عليه هو "التمثيل"، أى التشابه. المماثلة عند أرسطو لم تكن قائمة، كما هو الشأن في الفقه، على مجرد التشابه بين الأشياء. فالمماثلة عنده هي المساواة في النسب(أو العلاقات)، والتي يصورها بأنه عندما يُحمل مصطلح الخير على العقل وعلى البصر، فإن ذلك يكون على طريق المشاكلة analogy بمنزلة ما أن العقل في النفس كقياس البصر في البدن. ما يريد الشهرستاني ـ بحسب ولفسون ـ قوله هو ان المعتزلة المتفلسفين خلطوا التمثيل المُستخدم في الفقه، والذى يقوم على مجرد التشابه، بالتمثيل الذى يستخدمه أرسطو بمعنى التساوي في النسب أو العلاقات..
مع وصف الشهرستاني لنشأة الاعتزال يتفق ابن خلدون، فاشارة الأخير إلى التمييز بين فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية في تاريخ الاعتزال، واضحة في وصفه منذ البداية ببساطة لواصل ابن عطاء عندما يرد اسمه بأنه واحد منهم، أي من المعتزلة. لكن اسم أبي الهذيل(15)، فإنه يصفه بأنه اتبع رأي الفلاسفة، وبالمثل اسم النظام(16) يصفه بأنه طالع كتب الفلاسفة. ابن خلدون يتابع الشهرستاني فيعطي ذات السببين اللذين من أجلهما تبنى متفلسفة المعتزلة الاسم القديم "كلام" لمذهبهم. يقول ابن خلدون: "وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذى يسمى كلاماً، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام ـ أي قِدم القرآن ـ".
[3] محاولات حمل أئمة السلف على الاعتزال:
مع قيام فرقة المعتزلة التي استخدمت ـ على نحو ما ذكرنا ـ منهج الكلام واستبقت لمذهبها اسم "الكلام" حتى عندما أصبح طابع مذهبهم فلسفياً، أصبح مصطلح "الكلام" بالتدريج علماً على المعتزلة. الشهرستاني وابن خلدون يرويان لنا كيف تبنى بعض الخلفاء الاعتزال وحملوا أئمة السلف عليه ـ وهو ما عُرف بالـ"محنة" ـ، وكيف أدى رد فعل السلف على هذا القمع إلى قيام علم كلام سني يناهض المعتزلة.
تضييق الخلفاء المعتزلة على السلف يخبرنا عنه الشهرستاني في فقرتين قصيرتين: في احداهما، وبعد أن يذكر اسم أبي موسى المزدار(17) راهب المعتزلة بما هو واحد من شيوخ الاعتزال، يضيف قائلاً: "وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن". وفي فقرة أخرى ـ وهو يتحدث عن المعتزلة ـ يقول: "ونصرهم..جماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن".
مع فقرتي الشهرستاني يتفق هذا القول الخلدوني: "ولُقنها ـ أي عقيدة الاعتزال ـ بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودمائهم". وثمة اشارات إلى ثلاث حقائق تاريخية تشي بها فقرتي الشهرستاني: 1ـ اصدار الخليفة المأمون سنة 827م لمرسوم أعلن فيه أن الاعتزال عقيدة رسمية للدولة، واتهم أهل السلف بالابتداع. 2ـ اصداره لمرسوم آخر في سنة 833م، سنة وفاته، تم بموجبه امتحان أهل السلف في عقيدتهم. 3ـ استمرار المحنة أثناء حكم
يتبع