المجتمع بين مقدار
الحريات وحرية المقادير
بقـلـــم : عبد الإلــه محــريــر
المقدار هو الكمية، النسبة، الجرعة، وكذلك الحد الأقصى والحد الأدنى.
المقدار، هو بالضبط ما يكفي لا أقل ولا أكثر، علما أن النقصان يمكن معالجته وبالتالي استدراكه وتعويضه على حساب المدة، المفعول
المقدار هو العلاقة الأزلية والدائمة بين الإنسان والمادة، فهو متنوع ومتعلق بالإدراك والفهم الآني والوقتي للمادة بدافع السبب واتجاه الغرض أو الهدف الذي يحدد من أجله زمانا ومكانا.
المقدار، هو كذلك حكمة، احترام، مسؤولية، واجب، حذر، التزام، تحليل، قياس، وهو مصدر للجمال، للذوق الرفيع، للعافية، للهناء، للياقة، فهو بكل اختصار أقل ما يمكن من الصواب والعقل لتمييز حضارية الإنسان.
لكن حذاري من تجاوز المقدار surdose فهو سم، ضرر، بشاعة، قبح، نشاز، ثقل، فضيحة، غباوة، فوضى، شطط، تعسف، إفراط،ضجيج، استفزاز، شعوذة، هو إذن السيبة أو التسيب.
مثلا منطاد أو بالون، يمكنه احتواء آلاف المقادير من الهواء، كل مقدار يعطيه حجما نسبيا يؤثـر علـى محيطـه الميـدانـي و التثاقلـي ويحـدد له درجات التفاعل مع هذا المحيط، لكن في حدود مقدار أقصى إن انضافت إليه ذرة atome تفجر وتشظى ليصبح عدما.
كذلك الطاولة أو المائدة ذات ثلاثة أرجل تكون ثابتة أينما وضعت، لكن بأربع فإنها تفقد ثباتها في كل مكان، وينعكس عدم ثباتها على وضعية كل ما يوجد فوقها.
فتجاوز المقدار أو الإفراط يعني عند البعض كرم، نجوع وفعالية مما يشكل اعتداء وتهجما مجانيين على هدوء وهناء الآخرين، لأن الزائد أو الفائض لا يمكن احتواؤه إلا في الحقل المخصص للآخرين.
نفسانيا يتعلق الأمر بـالعدواني الذي يندرج في آلية التعويضmécanisme de compensation أمام الهروب المأمور بالخوف، وهذا الخوف ينتج عن عدم الثقة بالنفس بسبب غياب الكفاءة المكتسبة والأدوات اللازمة من أجل إثبات انسجام الشخصية مع الوضعية، فعدم رقي الشخصية إلى الوضع الذي توجد فيه يولد الإحساس بالإقصاء الناتج عن النقص حيث يعوض بجرأة زائدة في شكل تمرد يؤدي إلى التعبير العدواني أي تجاوز المقدار.
على أي حال فالمجتمع المدني يشكل مجموعة من المقادير يجب احترامها خصوصا في مجال الحريات، هذه المقادير موصوفة بالقانون الذي يمنع فعل أشياء يعد ارتكابها جريمة، ويلزم بفعل أخرى، عدم القيام بها يعتبر مخالفة، وبين الممنوع والمفروض يبرز التطوعي وهو هامش يخضع لمعطيات الظروف الحينية حيث يجب على المواطن أن يتحكم ويدبر إراداته ses vouloirs مخصصا هذا الهامش لتشابك واختلاط entrelacement حرياته بحريات الآخرين حول نقطة الالتقاء.
باتت فلسفة المجتمع المدني المتحضر تستمد رمزيتها من مبدأ الجوقة الفيلارمونية orchestre philharmonique التي تتكون من عدد هائل من العازفين على آلات موسيقية مختلفة ومتنوعة، لكل منها رنتها وخصوصيتها ودورها ونسبة مساهمتها، يسيرها رئيس صارم Maestro لا يسمح بالتهاون وعدم الدقة في الأداء، ذو أذن تلتقط النشاز fausse note ولو كان بدرجة جد ضئيلة، وكل فـرد يبدع فـي أداء مهمته بـانضبـاط حسب الاختصـاص ومـا هـو مسطر دون زيادة ولا نقصان. وذلك من أجل بلوغ الهدف الأسمى في هذا المجال الذي هـو التناغـم concert أو harmonie، أمـا العمـل والسهـر عـلى هذا الإنجاز فـهـو الأنـغــمــة concertation.
على هذا الأساس اعتمدت كلمة الأنغمة la concertation للتعبير عن مفهوم يؤطر لإدراك عمق معنى الحريات وتفاعلاتها داخل جسم المجتمع وكذلك بين المجتمعات، لتذويب الصراعات الناتجة عن اختلاف الأفكار والايديولوجيات والحضارات وبالتالي تعايش الكل في إطار سمفونية الإنسانية.
طبيعي أن الإنسان لا يجد توازنه إلا في حده، ولا يحس بذاته إلا إذا فعل أقصى ما يمكنه فعله، وإن تجاوز تضرر وأضر، لذلك فإنه ليس من الضروري استعمال الحد الأقصى من الحريات المشروعة والمسموح بها إذا لم نكن في حاجة إليها، أو استعمالها لا لشيء إلا لأنها حق مشروع، وفي حالة الحاجة الفعلية إليها فيجب اختيار الظرف المناسب أي تقلص حريات الأقرب le prochain، عملية مد وجزر.
وفي الأخير لا بد من التأكيد على أن القيام بالواجب ليس بمجهود متعب ومرهق، والعدول عن الممنوع ليس بكبث للحرية، بل هما أساس سيادة سلطة معنوية وأخلاقية داخل المجتمع، تدفع إلى الإحساس بالخجل والإحراج في حالة التصرفات البشعة وغير اللائقة الصادرة عن عدم الامتثال للقانون وما يمليه الواجب، وطبعا بالفخر في حالة العكس، هكذا إذن يستقر إيقاع أنغمة المجتمع المدني المتحضر.