مشكلة الموت في الثقافة العربية
حازم خيري
"فكرة أن الحياة ليست شيئاً دائماً
ساعدتني على تنوير ذهني،
إننا لسنا سجناء إلى الأبد
خلف سياج الحقائق المُتحجرة!"
طاغور
عندما أنظر إلى حياتى الداخلية والخارجية ينتابني في أغلب الأحيان شعور بغموض! شعور بأغوار غير معروفة! واني لأحس بظمأ إلى فهم الحياة وإلى دفعها للأمام، وأحس أيضاً بحاجة إلى مُناهضة العبودية، إلزامية كانت أم مُختارة!
ثم يبدو لى أن السبيل لبلوغ هذا كله يتم أساساً عن طريق الذود عن حق أبناء أمتنا في الحرية وفي نُشدان الحقيقة، بحسب ما تهديهم قلوبهم وعقولهم الحرة. مع العلم أني أدرك أنه ليس ثمة إمكانية لمعرفة الحقيقة، الله وحده يملكها!
الصلة ـ على ما يبدو ـ وثيقة بين الانحطاط المُخيف والشامل لمجتمعاتنا، وبين إحجام فلاسفة الضرار(1) عن تعهد مشكلاتنا الفكرية بالبحث الفلسفي الحُر.
أوليس يُساعد على تكريس الانحطاط في مجتمعاتنا الغارقة في التخلف أن الدارس لمشكلة مُلحة ومُؤثرة، كـ "مشكلة الموت في الثقافة العربية"، لا يكاد يقع على جهد فلسفي عربي، يُغري بتثمينه، اللهم إلا دراسة للعملاق عبد الرحمن بدوي، ناقش فيها: كيف يمكن أن تكون مشكلة الموت مركزاً لمذهب في الوجود؟
فلاسفة الضرار ومُحترفو التبرير الديني دائمو التأكيد على أن انحطاطنا المُخيف محض كبوة، وارتداد عن كمال إنساني، بلغه أسلافنا! وأن محاكاة ـ تجديدية وتحديثية (!!) ـ لهؤلاء الأسلاف، تُُبلغنا حتماً كمالهم الإنساني، وتُعيد لنا إمرة الأرض اغتصابا، على نحو ما تُغنينا "أم كلثوم"، في قصيدة "سلوا قلبي"!
حاجتنا ماسة لتأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، كخطوة واعدة على طريق بناء صرحنا الفلسفي! لم يعد مقبولاً أن نلوث بتخلفنا نقاء الحياة وطُهرها!
لم يُعد مقبولاً أن تذهب ملكات مفكرينا سدى! "فلسفة الضرار" مسئولة برأيي عن هدر ملكات المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد. فلو أنه خُلي بينه وبين طريق الفلسفة لربح وربحنا معه فيلسوفاً عظيماً. ولو أنه سلك طريق الفقه لربح وربحنا معه فقيهاً شهيراً! مازج الفقه بالفلسفة، كمازج الزيت بالماء!
لتكن صيحة الحرية: "أعطوا ما للفقهاء للفقهاء، وما للفلاسفة للفلاسفة"
صحيح أن الفهم العربي للحرية مُشوه، حتى أن فُقدان الحرية عند شعوبنا الكسيرة ليس يُفهم على أنه عُبودية، بل يُفهم على أنه وصاية تُمارس لخيرنا وخير الوجود بأسره! وصحيح أن الفهم العربي للاستقلال الوطني أضحى مضرب الأمثال في الرداءة! فالاستقلال حتمي، طالما خلت البلاد من الأجانب المُسلحين!
وصحيح أن الصروح الفلسفية لا تُشيد إلا بقلوب وعقول عاشقة للحرية، عارفة بأهمية النضال من أجل الحقيقة! كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الأمل يظل قائماً في قيام مدرسة أنسنية في الفكر العربي، تُعبد الطريق نحو تفكيك البنية التحتية لفلسفة الضرار! خنوثة التخلف العربي تُحتم التمكين للفلسفة في ثقافتنا!
العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء ـ للأسف الشديد ـ، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف!
في مقدمة أصحاب البصائر النفاذة يأتي الفلاسفة، فالفلسفة مُغايرة لغيرها من طرق نُشدان الحقيقة! إنها بحث مُستدام عن الحقيقة غير النفعية، كونها تتطلب من المشتغلين بها، في أوقات كثيرة، وقوفاً أليما في وجه رغباتهم الشخصية!!
على أية حال، أناقش في هذه المقالة "مشكلة الموت في الثقافة العربية"، رغم ضآلة الميراث الفلسفي العربي في هذا الصدد! تحدوني في ذلك رغبة صادقة في تزخيم رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني! ولسوف أبدأ بحثي بعرض مُطول نسبياً لما أورده الراحل عبد الرحمن بدوي في دراسته المُهمة المُشار إليها سلفاً(2).
ولتسمح لي قارئي الكريم ـ قبل أن أُخلي بينك وبين عرضنا المُطول لدراسة العملاق عبد الرحمن بدوي لمشكلة الموت ـ أن أضيف كلمة عن رأيي في الطريقة التى أنصحك بها في قراءة هذا العرض، وهي أن تتصفحه كله أولاً كما تتصفح "جرنال"، دون أن تُحمل انتباهك من أمره عسراً ودون أن تقف عند الصعوبات التى قد تعترض سبيلك فيه حتى تُلم الماماً عاماً بالنقاط التى تناولتها دراسة بدوي التشريحية. فإذا رغبت بعد ذلك في المزيد من الفهم استطعت أن تقرأ العرض مرة أخرى لكي تلتفت إلى إرتباط أفكار بدوي واتصالها. واعتقادي أنه إذا بقيت بعد ذلك بعض الصعوبات، فلتمض قارئي قُدماً في قراءة بقية المقالة..
هل للموت مشكلة حقيقية؟
ـــــــــــــــــــــــــــ
هل للموت مشكلة؟ أوليس الموت واقعة ضرورية كلية لابد لكل فرد أن يعانيها يوماً ما؟ أو لسنا نعرف جميعاً هذه الواقعة، لأننا نشاهدها لدى الآخرين؟
لكي يكون في مقدور الباحث الجاد أن يتحدث عن "مشكلة الموت"، وأن يتبين على أي نحو يمكن أن تكون للموت مشكلة حقيقية، عليه أن يبدأ بتحديد معنى "مشكلة" من ناحية، وأن ينظر نظرة ـ إجمالية من غير شك ـ إلى معنى "الموت" من ناحية أخرى. حتى إذا ما استطاع أن يتبينه، تيسر له أن يحدد عناصر هذه المشكلة ومداها، سواء من الناحية الوجودية العامة ومن الناحية الحضارية.
لكي نفهم معنى "مشكلة" يجب أن نُميز أولاً بين: إشكال Problematique وبين مشكلة Probleme. الإشكال صفة تُطلق على كل شيء يحتوى في داخل ذاته على تناقض، وعلى تقابل في الاتجاهات، وعلى تعارض عملي. أما المشكلة فهي طلب هذه الإشكالية بوصفها شيئاً يُحاول القضاء عليه. هي الشعور بالألم الذي يُحدثه هذا الطابع الإشكالي، وبوجوب رفع هذا الطابع وإزالته. هي تتبع هذه الإشكالية كما هي ذاتها أولاً، ثم محاولة تفسيرها تفسيراً يصدر عن طبيعة الشيء المشكل وجوهره. المشكلة تتضمن إذاً شيئين: الشعور بالإشكال ومحاولة تفسيره.
الحياة مثلاً تتصف بصفة الإشكال بطبيعتها، لأنها نسيج من الأضداد والمتناقضات. ولكنها ليست مشكلة بالنسبة إلى الرجل الساذج الذي ينساق في تيارها دون شعور منه بما فيها من إشكال، ودون محاولة ـ بالتالي ـ للقضاء على هذا الإشكال. وذلك لأن الشعور بالإشكال يقتضي من صاحبه أن يكون على درجة عليا من التطور الروحي، وأن يكون ذا فكر ممتاز على اتصال مباشر بالينبوع الأصلي للوجود والحياة، وأن يكون إلى جانب هذا كله على حظ عظيم من التعمق الباطن الذي تستحيل معه المعرفة إلى معرفة وحياة معاً. وبقدر هذا الحظ تكون درجة الإدراك. فضلاً عما يقتضيه الموضوع المشكل من شروط صادرة عن طبيعته هو الخاصة، دون غيره من الموضوعات المشكلة الأخرى.
فإذا أردنا الآن أن نُطبق هذا على الموت، وجدنا أنه يتصف أولاً: بصفة الإشكال. فمن الناحية الوجودية يُلاحظ: أولاً، أن الموت فعل فيه قضاء على كل فعل. وثانياً، أنه نهاية للحياة بمعنى مشترك. فقد تكون هذه النهاية بمعنى انتهاء الإمكانيات وبلوغها حد النضج والكمال، كما يُقال عن ثمرة من الثمار إنها بلغت نهايتها، بمعنى تمام نضجها واستنفاذ إمكانيات نموها. وقد تكون هذه النهاية بمعنى وقف الإمكانيات عند حد، وقطعها عند درجة، مع بقاء كثير من الإمكانيات غير متحقق بعد. وقد تكون بمعان أخرى، نُفصلها في أجزاء أخرى من هذا العرض.
وثالثاً، إنه إمكانية معلقة، إن صح التعبير، بمعنى أنه لابد أن يقع يوماً. هذا يقيني لا سبيل إلى الشك فيه، ولكنني من ناحية أخرى في جهل مطلق فيما يتعلق بالزمان الذي سيقع فيه. يقول باسكال: "إنني في حالة جهل تام بكل شيء، فكل ما أعرفه هو أنني لابد أن أموت يوماً ما، ولكنني أجهل كل الجهل هذا الموت"!
ورابعاً، أن الموت حادث كلي كلية مطلقة من ناحية، جزئي شخصي جزئية مطلقة من ناحية أخرى. فالكل فانون، ولكن كلا منا يموت وحده، ولابد أن يموت هو نفسه، ولا يمكن أن يكون واحد آخر بديلاً عنه. وهذا عين مصدر الإشكال من ناحية المعرفة، إذ لا سبيل إلى إدراك الموت مباشرة بوصفه موتى أنا الخاص، لأنني في هذه الحالة ـ حالة موتى أنا الخاص ـ لا أستطيع الإدراك. ومعنى هذا أيضاً أنني لا أستطيع أن أدرك الموت إدراكاً حقيقياً، لأن إدراكي للموت سينحصر حينئذ في حضوري موت الآخرين ومشاهدة الآثار الخارجية التي يُحدثها الموت.
ومثل هذا الإدراك ليس إدراكاً حقيقياً للموت كما هو في ذاته، بل هو إدراك للموت في اثاره. ولا أستطيع أن أقول هنا إنني عند محاولتي إدراك الموت أضع نفسي موضع الآخرين الذين يموتون، لأن المرء لا يمكن أن يحمل عبء الموت عن غيره. هذا إلى أنه لو سلمنا جدلاً بإمكان إدراك موقف المرء بالنسبة إلى الموت، فإن هذا لا يفيدني شيئاً في معرفة حالة الميت نفسه، وإنما يخبرني عن حالة المُحتضر فحسب، لا عن حالة الموت نفسها. لا سبيل لإدراك حقيقة الموت!
وهكذا نرى أن الموت كله إشكال من الناحية الوجودية ومن ناحية المعرفة!
الشرط الأول إذاً قد تحقق، وأعني به وجود الإشكال. فمتى يكون الموت مشكلة إذاً؟ يكون الموت مشكلة حينما يشعر الإنسان شعوراً قوياً واضحاً بهذا الإشكال، وحينما يحيا هذا الإشكال في نفسه بطريقة عميقة، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه. ويحاول أن ينفذ إلى معناه من حيث ذاته المستقلة. يقتضي هذا كله أشياء من الناحية الذاتية، وكذا من الناحية الموضوعية.
• من الناحية الذاتية: يقتضي لمن يمكن أن يصير الموت عنده مشكلة:
أولاً: الشعور بالشخصية والذاتية: 1ـ لأنه بدون هذا الشعور لا يستطيع الإنسان إدراك الطابع الأصلي الجوهري للموت، وهو أنه شخصي صرف، ولا سبيل إلى إدراكه إدراكاً حقيقياً إلا من حيث أنه موتى أنا الخاص. ولا يبلغ الشعور بالشخصية والوحدة درجة أقوى وأعلى مما هو في هذه اللحظة، لحظة الموت، لأنني أنا الذي أموت وحدي، ولا يمكن مطلقاً أن يحل غيري محلى في هذا الموت. ولهذا نجد أنه كلما كان الشعور بالشخصية عند الإنسان أقوى وأوضح، كان الانسان أقدر على ادراك الموت، وعلى أن يكون الموت عنده مشكلة. ولهذا أيضاً لا يمكن أن يكون الموت مشكلة لمن يكون ضعيف الشعور بالشخصية..
والنتيجة لهذا هي أن البدائي والساذج، نظراً إلى ضعف شعورهما بالشخصية، لا يمكن أن يصير الموت بالنسبة لهما مشكلة. واللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى إنسان ما، هي اللحظة التي تؤذن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية، وبالتالي قد بدأ يتحضر. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائماً ميلاد حضارة جديدة، فإن ما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات. وهذه فكرة قد فصل فيها اشبنجلر وأوضحها تمام التوضيح. ولهذا أيضاً كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت، وهذا الإضعاف للشخصية أظهر ما يكون في حالتين:
حالة إفناء الشخصية في روح كلية، وحالة إفناء الشخصية في "الناس"!
فكل مذهب في الوجود يفنى الشخصية في الروح الكلية لا يستطيع أن يدرك المشكلة الحقيقية للموت، وهذا ما فعله مذهب المثالية، وخصوصاً في أعلى صورة بلغها هذا المذهب، ونعني بذلك المثالية الألمانية وعند هيجل بنوع أخص.
فإن الفرد بالنسبة إلى المثالية ليس له وجود حقيقي في ذاته، وإنما الوجود الحقيقي هو وجود المطلق، ولا قيمة وجودية للفرد إلا من حيث كونه مشاركاً في وجود المطلق، أياً ما كان الاسم الذي نعطيه لهذا المطلق: فسواء سميناه "الأنا المطلق"، وهو الأنا الذي يضع نفسه بنفسه، كما فعل فشته. أو سميناه "الروح الكلية"، وهي تلك "الصورة" التي تعرض نفسها على مر الزمان كما فعل هيجل ـ فإن هذا من شأنه أن يحجب عنا إحدى المميزات الجوهرية للموت، ونعني به ارتباطه بالفردية أو الشخصية أو الذاتية كل الارتباط. ولهذا لم يقدر لهذه المثالية أن تضع للموت مشكلة، وإن وضعتها لم تضعها وضعاً حقيقياً. وإذا كان هيجل نفسه قد عنى بهذه المشكلة عناية كبيرة، فإن مصدر هذه العناية لم يكن مثاليته، وإنما كان مصدرها عوامل أخرى أجنبية عن المثالية خضع لها هيجل.
ثانياً: فكرة الشخصية تقتضي بدورها فكرة الحرية، فلا شخصية حيث لا حرية، ولا حرية حيث لا شخصية. وذلك من ناحيتين: 1ـ أنه لا مسئولية إذا لم توجد الشخصية، ولا مسئولية إذا لم توجد الحرية، فلا وجود للشخصية إذن إلا مع الحرية. 2ـ أن الحرية هي الاختيار، ولا اختيار إلا بالنسبة إلى شخصية تُميز.
فإذا كانت الشخصية تقتضي الحرية، والموت يقتضي الشخصية، فإن الموت يقتضي الحرية. ويتضح هذا أكثر حينما ننظر إلى طبيعة الحرية وطبيعة الموت، فنرى حينئذ أن الحرية هي الإمكانية، كما أن الموت هو الإمكانية، بل هو الإمكانية المطلقة. وعلى هذا، فإنه من ناحية الإمكان أيضاً الموت والحرية مرتبطان أوثق ارتباط، وقدرة الإنسان على أن يموت هي أعلى درجات الحرية.
ومن هذا الارتباط بين الموت وبين الحرية نستطيع أن نستنتج أن كل المذاهب التي لم تقل بالحرية الشخصية على وجه التحديد ـ لم يكن حظها أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً. وهذا أيضاً من العوامل التي شوهت مشكلة الموت في المثالية الألمانية، لأنها وإن قالت بالحرية، فإنها لم تفهم الحرية على أنها الحرية الفردية، وإنما فهمتها على أنها الحرية الكلية ـ إن صح هذا التعبير ـ، فإنها تقول بحرية بالنسبة إلى الله، وبالنسبة إلى الكل، الأنا المطلق أو الروح المطلقة، لا بالنسبة إلى الإنسان الفرد، وأما ما هنالك من حرية في الأفراد فما هي إلا مظاهر متعددة لحرية واحدة هي الحرية الكلية، وليست حرية بالمعنى الحقيقي!
كما لاحظ هذا أيضاً أحد أتباع هذه المثالية في الدور المتأخر من أدوار تطوره الروحي ونعني به فردريك شلنج في الدور الأخير. فقد قال شلنج إن فكرة المثالية عن الحرية فكرة صورية جوفاء يجب أن تستبدل بها فكرة واقعية حية، هي أن الحرية هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد. أي أنه لابد للحرية أيضاً أن تكون قدرة على فعل الشر، وإلا ـ أي إذا اقتصرت على فعل الخير وحده ـ فإنها لن تكون حينئذ حرية. ومن هنا فإن الحرية بهذا المعنى لا يمكن أن تكون صفة من صفات الله عند من لايجوزون على الله فعل الشر. ومن هنا جاء الارتباط الوثيق بين الحرية وبين الخطيئة: فحيث لا توجد الخطيئة لا توجد الحرية، وحيث توجد الحرية توجد الخطيئة بالضرورة..
ثالثاً: عن طريق هذا الارتباط بين الحرية والموت من جهة، وبين الحرية والخطيئة من جهة أخرى، كان الارتباط بين الخطيئة وبين الموت. والارتباط بين الخطيئة وبين الموت قد بلغ أول درجة عليا من درجات التعبير عنه في المسيحية، وصُور أصرح تصوير في عبارة القديس بولس: "بواسطة إنسان نفذت الخطيئة إلى العالم، وعن طريق الخطيئة نفذ الموت". فهذه العبارة تدلنا على أن المسيحية نظرت إلى الموت على أساس أن مصدره الخطيئة، أى أنها أدركت منذ ابتدائها ما هنالك من صلة وثيقة جداً، صلة العلة بالمعلول، بين الموت وبين الخطيئة.
وهي قد ربطت بينهما أيضاً عن طريق فكرة الحرية الفردية، خصوصاً إذا لاحظنا أن الحرية الفردية تحتل مقاماً عالياً في الفكر المسيحي، ومصدر هذا ارتباط الحرية بالخطيئة: فإذا كانت فكرة الخطيئة تلعب الدور الأكبر في الحياة الروحية المسيحية، كان لابد إذاً من القول بالحرية الفردية بل وتوكيدها، ما دامت هي مصدر الخطيئة. وهكذا نرى أنه قد توافرت للمسيحية هذه العناصر الثلاثة الضرورية لوضع مشكلة الموت: ونعني بها الشخصية، والحرية، والخطيئة.
أى أن الناحية الذاتية كان من شأنها أن تهيئ للمسيحية أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً، إن توافرت إلى جانب الناحية الذاتية الناحية الموضوعية.
• من الناحية الموضوعية:
يُقصد بالناحية الموضوعية أولاً إدراك أن الوجود يقتضي بطبيعته التناهي، حتى يمكن أن يُنظر إلى الموت نظرة حقيقية على أساس أنه عنصر مكون في الوجود. وإلا، فإن الموت لن يكون له اذاً مكان داخل نظرة الانسان إلى الوجود، وانما سيكون شيئاً عرضياً يمكن إغفاله. وهذا هو السبب في أن الذين نظروا إلى الموت هذه النظرة لم يستطيعوا أن يضعوا المشكلة الحقيقية للموت. وعلى رأس هؤلاء جميعاً أفلاطون، فبرغم عنايته بالموت، وقوله عن الفلسفة انها تأمل للموت، لم يستطع أفلاطون وضع المشكلة الحقيقة للموت، على خلاف ما يعتقده البعض.
فالذى يقصده أفلاطون بقوله هذا هو أن الموت هو الوسيلة التى بها يتيسر بعد ذلك للفيلسوف أن يفكر جيداً، وذلك لأن حياة الفيلسوف عند أفلاطون هي حياة متجهة دائماً إلى تأمل الصور أو المُثل، ولا يتيسر تأمل الصور تأملاً حقيقياً ما دامت النفس سجينة في البدن، فلابد من الخلاص من البدن ـ أى لابد من الموت ـ، حتى يكون في مقدور المرء أن يتأمل الصور دون أن يشوه عليه هذا التأمل مشوه. فكأن الموت في نظر أفلاطون إذاً جسر ومعبر ينتقل بنا من حياة النفس في البدن إلى عالم الصور. هو ابتداء أولي من أن يكون نهاية، لأنه ابتداء للحياة الروحية الحقيقية. حياة النفس حياة تأمل للصور. هو على وجه العموم باب يفتح على الأبدية. فلا يمكن إذن لمن ينظر إلى الموت هذه النظرة أن يجعل منه مشكلة.
وإنما يكون الموت مشكلة من الناحية الوجودية حينما يكون في نظر المرء من جوهر الوجود، وجزءاً جوهرياً مكوناً له. وهذه ناحية أدركتها المسيحية، فقال القديس بولس في نفس الآية السابقة: "وهكذا نفذ الموت في جميع الناس"، أى أن الموت عنصر مكون للوجود. وعن طريق هذا كله استطاعت المسيحية لأول مرة أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً من حيث أن الموت مشكلة فحسب. ولكنها حينما أرادت أن تعرف هذا الموت من حيث ماهيته اختلطت بالنظرة الأخلاقية، بل وضُحي بالنظرة الأولى، وكاد النظر أن يصرف عنها لحساب النظرة الثانية.
حتى أوشكت الناحية الوجودية أن تختفي بتأثير الناحية الأخلاقية، خصوصاً أنها قد وقفت من الناحية الأخلاقية موقفين. فقالت عن الموت إنه شر وقالت عنه إنه خير. أى أنه شر بوصفه ابن الخطيئة وهو خير من حيث أنه الواسطة بين المتناهي واللامتناهي، بين الانسان وبين الله، إذ هو أصل الفداء. ولذا كان الشعور الذى يتم به ادراك ماهية الموت مزدوجاً: فهو قلق من ناحية بوصف الموت شراً، وهو سرور بوصفه خيراً من ناحية أخرى. وكانت نتيجة هذا أنها لم تستطع أن تصل إلى إدراك ماهية الموت إدراكاً حقيقياً، ما دامت لم تأخذ بالمصدر الأصلى الحقيقي للمعرفة فيما يتعلق بالموت، ونعني به القلق! وعلى كل حال، فإن المسيحية استطاعت أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً، ولهذا كان لها أثر كبير في جميع الفلاسفة، الذين حاولوا من بعد وضع مشكلة الموت.
والعلة في أن النظرة الأخلاقية قد حالت بين المسيحية وبين إدراك الموت إدراكاً حقيقياً هي أن نظرتها إلى الموت بوصفه شراً جعلتها تنظر إليه على أنه مضاد للحياة، مع أنها قالت إنه عنصر مكون للوجود. فالواقع أن هذا القول إذا فسر تفسيراً وجودياً صرفاً، وبصرف النظر عن كل تقويم أخلاقي، يدل على أن الموت جزء من الحياة. وأنه ليس مضاداً لها. فلكي تكون النظرة إلى الموت صحيحة يجب أن تجعل الموت جزءاً من الحياة، وهذا ما فعلته فلسفة الحياة. خصوصاً عند أشهر ممثليها من الألمان. فقد قال فردريك نيتشة: "حذار أن تقول إن الموت مضاد للحياة". ولكن كيف السبيل إلى جعل الموت جزءاً من الحياة؟
إن أصحاب المذهب الحيوي يقولون إنه ليس خارج الحياة شيء، فالحياة هي الكل. ومعنى هذا أن الموت يجب أن يُفسر أيضاً بالحياة وأن تُفسر الحياة بدورها بالموت. ولهذا يقول جورج زمل: "إن الحياة تقتضي بطبيعتها الموت، بحسبانه هذا الشيء الآخر الذى بالنسبة إليه تصير شيئاً، والذى بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته". إن الحياة تقتضي الموت أيضاً إذاً، وما هو حي هو وحده الذى يموت وما الموت إلا حد للحياة، هو الصورة التى تلبسها الحياة وتحطمها من بعد، وهذه الصورة لا توجد في اللحظة الأخيرة فحسب، بل توجد في كل لحظة من لحظات الحياة، وتعين مضمون هذه اللحظات. هي صورة باطنة إذ توجد منذ بدء الحياة وبدونها ستكون الحياة منذ البدء شيئاً آخر. الموت باطن في الحياة ومُحايث لها إذاً، وليس عالياً عليها. الموت ليس حادثاً خارجياً عرضياً.