قراءة في مجموعة : مظلة في قبر*
محمد اكويندي
عن منشورات القلم المغربي صدرت للقاص مصطفى لغتيري مجموعته القصصية الثالثة والتي اجترح لها عنوان (مظلة في قبر) وكما يقال فإن الثالثة ثابتة
تتراوح قصص لغتيري القصيرة جدا بين ثلاثة سطر إلى اثنتي عشر سطرا،لكن على الرغم من الاختلاف في الطول تبقى تقنيات القص متقاربة بين قصصه المختلفة،ويلحظ في قصصه عدد من العناصر منها ثقافة موسوعية مسخرة لبناء القص ، حيث تخدم المحور والتفريعات عبر اختيار ما يناسب موضوع كل قصة ، كما أضفت أركان قصص لغتيري القصيرة جدا، وتقنياتها عددا من الخصائص على نصوصه، منها عمق الأثر الذي نتج عن وعي بالواقع، ومكوناته، ومحركاته إضافة إلى مقدرة على الإيحاء ، والإقناع ،وترك الأثر الكبير في المتلقي ، وقد تواشج ذلك مع بساطة في الفكرة،، كما نجح كذلك الكاتب في تحويل كثير من التجارب الشخصية إلى أفاق إنسانية عبر كثير من الشغل عليها،وأضفى على ذلك خصبا على نصوصه جعلها قابلة لأكثر من قراءة وتحليل وتأويل،مع ما فيها من جدة ومحاولة استفادة من وقائع تاريخية مضت عبر كثير من الطرافة و الابتكار
حيث كانت طرافة من أهم خصائص عدد من قصصه، مثلا القصص التالية: ثورة – كذبة – اختيار – احتمالات – البهلوان – منطق – قمر – ابراهام – الخطيئة
وسنتناول في هذه العجالة قصة (قمر) التي لا تتعدى خمسة سطر ولكنها حبلى بشتى المعاني، وهي قابلة لأكثر من قراءة وتحليل وتأويل،تقول هذه القصة : " قبيل جلائها ، أهدتنا فرنسا قمرا ،،، تسلينا كثيرا برؤيته ،،، لكن بعد اختفائه ،،، اكتشفنا أنها رحلت ،،، وأخذت معها الزر الذي يشعله "
في قراءتنا الأولى نستخلص منها رمزية القمر ب الاستقلال والزر هو عدم استغلال هذا الاستقلال استغلالا جيدا
وتأويل الثاني من القراءة يعود بنا إلى تاريخ المغرب القريب حين كان يرزح تحت نير الاستعمار الفرنسي ونفي سلطانه ، مما جعل الحركة الوطنية والمقاومة، تهدئ من روع الشعب برؤية السلطان في القمر ،،، وبعد جلاء الاستعمار عاد السلطان الذي لم يهمله القدر إلا فترة قصيرة حتى وافته المنية بهذا المصاب يكون القمر قد اختفى ، وباختفائه تكون فرنسا قد تنصلت من الكثير بوعودها (الزر) هذه الحادثة التاريخية نجدها كما أسلفنا مضت عبر كثير من الطرافة والابتكار التي هي من أهم خصائص عدد من قصص هذه المجموعة كقصة " ثورة "
المستوى الثاني من القراءة لنماذج قصصية من المجموعة ذاتها وتتجلى في قصة " السيدة" التي تحتس العصير في المقهى المواجه لإقامة سكنها ولم أطلت خادمتها لوحت لها محيية أيها تجاهلتها،(و في هذا التجاهل رسالة غير منطوقة أدركت الخادمة مغزاها ) ثم اختفت ليبقى الكلب وحده يطيل النظر من النافذة ، تلوح إليه السيدة ، وهو بدوره تجاهلها وبهذا الصنيع يكون قد ثأر الحيوان الوفي والمخلص انتقاما للخادمة التي تهتم بتربيته وتهيئ طعامه أما سيدته فلا تحسن إلا التباهي به وجره من الخلف فقط
وفي قصة " احتمالات " نجد الكاتب يستفز القارئ / المتلقي، أو يجعله مطالب بالمشاركة في كتابة القصة بإيجاد احتمال ثالث، بعدما يكون الكاتب قد أعطى احتمالين: الأول إنه يقرأ حكاية الملك يونان والحكيم دويان من كتاب آلف ليلة وليلة
والاحتمال الثاني : إنه يقرأ كتاب "اسم الوردة " لامبرطو ايكو وهذا الأخير بدوره استلهم هذا الحدث لروايته المذكورة من الحدث المتعلق بتسميم مخطوطة الجزء الثاني من كتاب الشعر لأرسطو في روايته " اسم الوردة " في ضوء حكاية الملك يونان والملك دويان ،،، في ألف ليلة وليلة، قال إنه لم يطلع على هذه الحكاية العربية، وأن الأمر بالنسبة إليه لا يتعدى أنه اشترى قبل سنين بعيدة طبعة قديمة من كتاب الشعر بسعر زهيد، لأن أوراقها كانت متضررة بزيت من نوع ما،اضطر ايكو معه أن يحتفظ بالنسخة في مكان فوق المكتبة وحيث أراد كتابة " اسم الوردة " عاد إلى تلك النسخة فأوحت له فكرة الكتاب المزية بفكرة المسموم ،،، ففي هذه القضية تأويل عند إيكو ينحاز إلى وجهة نظر القارئ وهو ما نجده في قصة "احتمالات" للقاص لغتيري التي تريد أو يريد كاتبها أن يشاركه المتلقي / القارئ، في كتابة هذه القصة
أما الاحتمال الثالث : فهو الكتاب الذي سممه القاص بعصارة سم القصة القصيرة جدا، الذي بين أيدينا ما أن ننتهي من قراءته أو كتابته حتى تكون بمثابة موت المؤلف/ يورج أمين مكتبة الدير، أو القارئ المستهدف معا ،،،
وإيكو يقارن قارئه ونفسه (بيورج) الذي أرد بالكتاب المسموم محاربة (الضحك والهزلي ) وبدل أن يقضي أمين المكتبة على هذا السلوك فقد قضى عليه الهزلي واضطر إلى التهام الكتاب المسموم بنفسه وهكذا انقلب السحر على الساحر ،أما قصتنا حين ننتهي من قراءتها وغلق دفتي الكتاب يكون الكاتب متواريا بصورته الفوتغرافية أعلى يمين الكتاب مبتسما بانتشاء الخلاص المسطر تحت صورته
*مضلة في قبر:هي المجموعة القصصية الثالثة لمصطفى لغتيري صدرت له عن دار القرويين ط،الأولى ،2006