المغرب: من النظام الملكي الأبوي إلى الدولة المدنية
بقلم: فؤاد وجاني
قال جمال الدين الأفغاني: "يمكن لشعب أن يعيش بدون ملك، و لا يمكن لملك أن يعيش بدون شعب". بسبب هذه المقولة التي اقتبستها الصحيفة المغربية الناطقة بالفرنسية "لاناسيون أفريكان" في شهر فبراير سنة 1965 ، قضى رئيس تحريرها ادريس الفلاح عشرة شهور في السجن، وحظر المخزن إصدار الجريدة لمدة نصف سنة. ولم يكن عبد الرحمان اليوسفي ومحمد البصري من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أوفرا حظا قبله حيث لقيا نفس المصير ما بين 1959 و 1960 بعد المقالات التي نشراها في صحيفة التحرير طارحيْن شكوكا حول سلطات العرش.
لست هنا أسرد وقائع استبدادية تأريخية مازالت مستمرة إلى يومنا هذا تحت أقنعة مُطَوَّرة وتُهم جاهزة مُلفقة، إنما وقوفا أمام طرح فكري نحاول تمحيصه . وهو فكر لا يمكن لعاقل إلا أن يصفه بالاستبدادي بغض النظر عن كل توجه سياسي .
إن علاقة الملكية بالشعب المغربي تندرج في إطار علاقة الوالد بولده، فهي محكومة بالبر والطاعة. الملك هو الأب الروحي للأمة، هو من يُصدر العفو إن شاء على الذين خرجوا عن الطاعة، و خطاياهم لا تُشطب من الذاكرة بل يتغاضى عنها العاهل فقط. وتسمو علاقة الأبوة أحيانا لتصل درجة الألوهية حيث لا يتوانى في الإشارة إلى نفسه خلال خطبه بمصطلح "جلالتنا".
و تتجلى علاقة الأبوة بالشعب حسيا في تقبيل الأيادي، والانحناء أمام الملك، وتقديم الطاعة والولاء ونعتهما بالفرضين كما لو كانتا شعيرتين مقدستين، ومظاهر الخشوع التي يستوجبها حضور الملك في مكان عام أو خاص، فهو ليس بالإنسان العادي السائر على قدمين والذي يمكن تجاهله، وقد خصص له الدستور نفسه بابا كاملا يتضمن فصولا عديدة توجب له التوقير والاحترام ، وحل السلطة التشريعية عبر ظهير، واختيار رئيس الحكومة، ورئاسة المجلس الوزاري والعلمي والقضائي وقيادة الجيش، وإعلان حالة الاستثناء بالبلاد، وتعيين السفراء والقضاة، وغيرها من المهام الأبوية.
و بواسطة تلك العلاقة تتحكم الملكية في اللعبة السياسية، فلا يمكن لأي طرف حزبي أن يصبح الأكثر قوة، وإذا ما ظهر ميول للهيمنة فإنه يُواجَه عبر إعطاء نفس جديد للجماعات المنافسة. هكذا تحافظ الملكية على قوتها مُضعفة باقي التكتلات بقدر متفاوت يجعلها تُركز المواجهة فيما بينها مع توقير الملكية. وفي نفس الوقت فإن الملكية لا تسمح لأية مجموعة سياسية مهما كانت درجة ولائها أو معارضتها بأن تموت، لأنها تعتبر كل واحدة منها بغض النظر عن مستوى قوتها أو ضعفها ورقة رابحة يمكن استعمالها ضد الجماعات والأحزاب الأخرى. وهي قادرة عبر آلتها المخزن أن تتحكم في اللعبة السياسية عبر تقوية هذا وإضعاف ذاك. وإذا كان للأحزاب حق المشاركة في تأطير وتمثيل المواطنين فلا يسمح لحزب سياسي واحد أن يستحوذ على الأغلبية المطلقة لأن ذلك يشكل تهديدا للملكية.
فالنظام الملكي المغربي لا يفرق كي يسود، بل يفرق كي يبقى على قيد الحياة. وهو شعار تبنته الملكية منذ عهد الحسن الثاني بحيث يلعب النظام دور الوسيط الحكيم بين مختلف التيارات السياسية . وقد أوصى بذلك أحمد رضا اكديرة الحسنَ الثاني حتى لا يقع ضحية الحزب الوحيد. وخلال مؤتمر صحافي عُقد بتاريخ 13 ديسمبر سنة 1962، أكد الحسن الثاني تلك النظرية مشبها نفسه بحَكم مباراة في كرة القدم. وساعد علال الفاسي الحسن الثاني على تمثيل دور الوسيط ، فنراه في خريف سنة 1964 يدعوه إلى التدخل لحل إشكالات عالقة بين الأغلبية والأقلية في البرلمان.
و يُتهم كل طرف سياسي يعارض حكامة الإرادة الملكية بتهمة تدنيس المقدسات ويتم إقصاؤه من العائلة كما حدث للمهدي بنبركة. وقد أشار الحسن الثاني في خطاب له في أبريل من سنة 1965 ضمنا دون تحديد لأسماء باعتباره الموزع الأسمى للعدالة إلى العفو عن المهدي بنبركة شرط أن يرجع إلى المغرب مؤكدا أن رأفته تعادل صرامته، وأن باب العفو لن يظل مفتوحا إلى الأبد، وعلى الذين هددوا الأمن الخارجي للدولة الرجوع إلى الوطن من المنفى، مُلمحا بأن الذين مسهم عفوه قد ارتكبوا جرائم نكراء بالغة، واختاروا اللجوء إلى الخارج بدل مواجهة العدالة في بلادهم.
على المستوى الاقتصادي ومنذ بداية ما يسمى بالاستقلال، تجلت مظاهر الأبوة الملكية في إثراء النخبة المقربة من القصر واتخاذ إجراءات قمعية اقتصادية ضد أولئك الذين يرفضون ذلك الوضع. وقام الملوك بدور نشط في الأعمال التجارية للمملكة، واستثمر القصر أموالا ضخمة في الأبناك والشركات داخل المغرب وخارجه. أما نساء العائلة فقد تزوجن بغرباء خارج منظومة العائلة الملكية، فعلى سبيل المثال قد حظي الأزواج حسن اليعقوبي وأحمد عصمان ومحمد الشرقاوي في حقبة الحسن الثاني بدفعة كبيرة داخل المجتمع والعالم الاقتصادي من قبل القصر. لكن هذه البرجوازية الحديثة بقيت نفسها ضعيفة لاعتمادها على حماية المخزن وأمواله. وفي نفس السياق، قامت العائلة الملكية بحيازة الأراضي حيث أصبح شقيق الحسن الثاني الأمير عبد الله أكبر مُلاك الأراضي الفلاحية الخصبة بالمغرب حينها وسار على نهجه بعده محمد السادس.
وعلى المستوى الإداري، فقد سمح القصرلكبار القادة العسكريين والموظفين الساميين ذوي المناصب العليا باستغلالها لتحقيق الثراء الفاحش على حساب موظفي الخدمة المدنية. واحتفظ كل الملوك بسلطاتهم في تعيين الوزراء وفوضوا بعض السلطات إليهم دون التخلي عنها. و سيطر الملوك العلويون على الوزارات الحساسة المرغوبة، وتلاعبوا بالتعيينات بنفس الطريقة التي كان يوزعون بها العقوبات الاقتصادية والمكافآت. ولاستمرار الملكية جذبوا أعضاء جدد حتى يحافظوا على توازن المعارضة. ولم تتجرأ إلا قلة من النخبة على رفض المناصب الملكية الممنوحة خشية انتقام القصر. وقد سهل كل هذا مهمة الملك الذي يستطيع عبر التحكم في حجم تدفق الرعاية تضخيم بعض الجماعات وإضعاف أخرى والحفاظ على الحد الأدنى من الترقب بين أعضاء النخبة لخطوته المقبلة. وليفرض الملك دور الوسيط فقد سخر طاقاته وفكره في التلاعب بوحدات النخبة.
على الصعيد الاجتماعي، فصلت الملكية بين عالمين؛ العالم العُلوي الطبيعي الذي تمثله باعتبارها من سلالة الأشراف العلويين المنحدرين من نسل خاتم الأنبياء، وهو عالَم يدعو إلى التلقين والحفظ وتقديس الماضي والتراث والنصوص، وبين العالَم السفلي وهو الشعب أو الرعية التي عليها الطاعة والإذعان للمشيئة الإلهية ولصيرورة التأريخ. وفي المقابل حاربت الملكية الفكر الحر والتجديدي سواء أكان مصدره حركات يسارية أو إسلامية أو غير منتمية باعتباره خروجا عن النص وتدنيسا لقداسة الماضي عن طريق القمع أحيانا والاحتواء أخرى. وقد عمل الاستعمار الفرنسي على الحفاظ على نظام الخطاب الأبوي منذ عهد محمد الخامس بل وزكاه بخلق أساطير جديدة ملائمة للمرحلة.
إنها علاقة هرمية في قمتها الملك، تليه العائلة الملكية، ثم النخبة المنتقاة المكونة من مستشاري وديوان وحاجب القصر، فكبار العسكريين ووزراء السيادة والموظفون السامون، ثم الأشراف والزوايا وشيوخ القبائل والأعيان، فزعماء الأحزاب والنقابات والفاعلون في المجتمع القريبون منه، وفي الأسفل هناك القاعدة العريضة: الشعب.
إن النظام الملكي الأبوي ليس نمط إنتاج ولا معرفة إنما ظاهرة استبدادية تستمد جذورها من ماض مختلق وحق طبيعي مزعوم مُتوارث. والمغاربة لم يولدوا أحرارا لاختيار حاكميهم بل داخل منظومة قائمة، الملك فيها فوق القانون، والقانون هو إرادة الملك الذي يصدر الظهائر الشريفة اللازمة للجميع.
لعل السؤال : متى يصبح المغرب دولة مدنية؟ قد حسمته الملكية باستمرارها في الاستبداد على الرغم من الثورات الجارية في بلدان شمال أفريقيا والشرق وتشبثها بالمناورات السياسية بدل تهميش نفسها في إطار ملكية برلمانية شكلية، فأضحى وجودها منافيا لأسس قيام دولة حديثة تحكمها المؤسسات المنبثقة من إرادة الشعب، حيث القائد مُختار من قبل الشعب الذي يحتل رأس هرم السلطة.