محمد اكويندي … كاتب وقاص متميز ، يكتب القصة بشبقية زائدة…
تعرفت إليه عن قرب خلال إقامته بمدينة طنجة ، فاكتشفت كاتبا وقاصا متمرسا ، إنه القصة بعينها ، تروقني كل يوم قراءته ، حتى أصبحت مولعا به وبقصصه التي يتحفني بحكيها ، أو يمدني بها للاطلاع عليها … بل أصبح بالنسبة لي مرجعا قصصيا استفدت منه الكثير في المجال ، واليوم الذي تخونني لقياه ، أحس وكأن شيئا ينقصني ، فأضطر للسؤال عنه ، ولو في ساعة متأخرة عبر الأثير ، وذلك أضعف الإيمان ، لما أصبحت تربطني به من علاقة أخوية حميمية …
محمد اكويندي يملك من الذكاء ما يمكنه من تحويل كلمة عابر في لحظات هاربة ، إلى قصة حاضرة ذات تأثير دلالي وإبداعي .
لن أقول فيه أكثر مما قاله الأستاذ المبدع والناقد : سعيد يقطين ، الذي استمتع قبلي وتلذذ بهذا السرير الوثير … ولقد صدق بقوله :( على أن في المجموعة صدى لكاتب سيكون له موقعه المميز في كتابة النص القصصي ” الذكي ” لأن القصة القصيرة لا تحتمل البلادة ) … وهذه ميزة أصبح يتميز بها محمد اكويندي مثله مثل الكثير من القصاصين المغاربة .
“” سرير الدهشة “” … ثنائية تحمل عدة دلالات .. فالسرير هو المكان المخصص للراحة والاسترخاء والاطمئنان الجسدي ، للخروج من دوامة العبث اليومي … لكن المصطلح الثاني : ” الدهشة ” جاء ليكسر رتابة الصمت ، بصمت أكثر جمودا ، حيث يومئ بأن لا مفر من الانغماس في ذلك العبث الذي يحاول الكاتب التخلص منه عبر الاسترخاء فوق هذا السرير مهما كان وثيرا …كما يوحي من جهة أخرى ، أن ما بين طيات القصص كلام محمل بعدة لعنات تقلق الراحة المرجوة ، وتفسد الإغفاءة المشتهاة ، نتيجة الحقائق الجارحة التي تمخر جسد المجتمع …
تتداخل في مجموعة :” سرير الدهشة ” القصص وتتعدد أبعادها الدلالية ، بترميزاتها وتلميحاتها ، بانفعالاتها وتفاعلاتها ، بأحاسيسها وأفكارها ، لترصد وترسم الواقع بكل تداعياته ، بسخرية لاذعة أحيانا ، ولبقة أحايين أخرى …
والدهشة ، هي القاسم المشترك بين القصص في كليتها ،كوسيلة لانتقاد المجتمع والمتحكمين فيه .
“”سرير الدهشة “” …مجموعة قصصية تعالج قضايا فكرية ، وتجاذبات اجتماعية ، عبر إثارة الواقع ، والصراع القائم بين الإنسان والحياة المستعصية ، في إطارها الزماني والمكاني …
الإهداء :- إلى ابنه ياسين … وشقيقه سالم … إهداء ذا بعد إنساني وامتداد وجداني .
لوحة الغلاف :- للفنان العالمي ( خوان ميرو ) … حيث أني لم أجد لها اسما مناسبا ، فسميتها :” تشظي ” ، لعدم وجود ” سرير ” وثير ، لكن الدهشة حاضرة في تشوه الصورة وعدم وضوحها ، فهي توحي بتشوه المجتمع الذي أصبح موبوءا ، يرزح تحت وطأة عدة ترهات مفترضة ومفروضة ، تحكمه عدة إيديولوجيات متباينة التوجهات … الألوان ذاتها توحي بالغبن : ( الأسود والرمادي )، لونان يقتلان كل الألوان … على قلاتها .
البعد الدلالي للقصص … لكل القصص بعد دلالي متفرد ، يتحدث من خلاله بواقعية سردية زائدة وجريئة ، تنير للقارئ السرداب المظلم لخبايا الحياة ، عبر القصص الثمانية التي تؤثث المجموعة … نصوص يختلط فيها الواقع بالخيال ، والحقيقة بالأسطورة ، من حيث الشخوص والأحداث ، وحتى الأمكنة ، عبر أزمنة محددة …
هناك أهداف وغايات يسعى الكاتب إلى تحقيقها عبر أنماط خطابية متباينة ، تعكس في مجملها حقيقة واقع متشرذم … فالقصص جاءت في مجملها على صيغة الماضي ، حتى توحي للقارئ بالواقعية ، وتكتسي نوعا من المصداقية …
في المجموعة القصصية حلقات مفقودة ، متروك للقارئ حرية البحث للعثور عليها ، حيث يسلط الضوء على الحياة اليومية المعاشة ، محاولا إعادة تسلسلها وتماسك حلقاتها ، فهي تكرس واقعا إجتماعيا قد يعتبر شاذا من خلال تشرذمه وتباين أحداثه .
“” سرير الدهشة “” … مشاهد مؤثرة توحي بلذة القراءة ومتعة التأويل والتخييل اللذان يضفيان على القصص نوعا من النضج الدرامي ، المستوحى من الصراع بين كل مكونات الحياة …
إذا فالمجموعة ، رحلة هندسية عبر زوايا هذه الحياة ، كانت حادة أم قائمة .
فقصة : ” المزواة ” … رسمها الكاتب بتقنية المهندس المتمكن ، في ثلاثية متشابكة الزوايا ، حتى وإن كان الوضع الثنائي : ( السارد والمرأة ) ، يمثل زاوية قائمة على جدار الجسد المكتنز ، في حضور البلاهة ، مهما كانت مفتعلة … كثيرا ما يكون التظاهر بالبلاهة مفيدا ، لايهم أن تكون البلاهة زاوية قائمة أوحتى مائلة ما دامت ستوفي بالغرض ، والتطلع إلى ما بين فتحتي الفستان ، فستان امرأة تجلس أمامك في خط مستقيم ، تضع رجلا فوق أخرى ( جلسة مقص ) ، لتكشف لك عن قصد أو عن غير قصد ، عن مكامن اللذة بين الفج العميق من فخذيها … وكثيرا ما تنتهي اللذة بالقذف السري غير المعلن ، في غياب ممارسة حقيقية ، لكن نهاية لذة كاتبنا انتهت بالقذف المعلن عبر السطور …
وفي قصة :” الكلب” … يتصور الكلب كائنا خياليا بسلوكيات مختلفة تعبر عن سلوكيات المجتمع ، سلوكيات مرفوضة ، يقرأ من خلالها أوجه التحولات المجتمعية المربكة والصادمة … وتعتبر من الخوارق السردية التي تتجاوز المجال الإنساني ، ليدخل القارئ في دوامة اللاواقع ، أو الخيال المدقع ، بعيدا عن الحقيقة ، أو البعد الغرائبي … لهذا فهو يحاول جادا أن يفك ذاك القيد أو ذاك الحبل المجتمعي ، بغية التحرر من التقاليد الزائفة ، والأعراف البائدة المفروضة .
وفي قصة العنوان :” سرير الدهشة” … سرير بثلاثة أركان … قد تكون هناك حكمة في هذه الثلاثية ،وإلا لما استقام السرير ، اللهم إلا إذا كان على شكل مثلث متوازي الأضلاع .
- في الركن الأول : … علق وردة للانبهار والدهشة والاندهاش ، ورعشة الموت المؤجل في جسد طوحت به الأمواج على شط المتاهة الباردة ، برودة القبل المتبادلة عبر الفاه للفاه ، لبث الروح المنفلتة ، وتضيع النظرات الشاردة بين زحمة الأجساد البضة والمشعرة .
- في الركن الثاني :… يبحث عن تناظره بين نهدي امرأة ممددة على سرير الدهشة ، يلاعبها القبل واللمس والهمس ، يتبادلان الآهات والزفرات ، يغيب الواحد في عمق الآخر بكل اشتهاء ولذة ، يقذف نذفا من روحه بين أحشائها مستنسخا أناه … تناظره … شبيهه …
- في الركن الثالث :… وقف أمام المرآة يحاكي نفسه ويرسم ملامحه ، أمانيه وأمنياته التي شاخت دون أن تتحقق … تموت غرقا في بحر من الأوهام الزجاجية … المرآة التي تعكس تجاعيد الاستسلام … الغرق … الإحباط … تجاعيد قد تحجبها الشعيرات الذكورية ، لكن شفرة الحلاقة تفضح حقيقة الوجه أمام المرآة .
“” جوقة التماثيل “” … قصة تتميز بالترميز والغرائبية في ذات الوقت … تماثيل تتكلم وتحاور وتتحرك … قد تكون الثمالة الأدبية فعلت فعلتها في الراوي أو السارد ، لكن الفنية الكتابية تسمح بالخروج عن المألوف والانغماس في الخيال والتخيل ، فأصبح السارد يتخيل التماثيل تنطق وتتحرك وتحاور ، بل وتناور … وقد يكون التمثال ( ثودا )، هو توأم السارد الذي يرى فيه نفسه وأناه …
“” النافذة “” … المنفذ الذي يطل على الحياة ، ويمنحنا فرصة التملي بما تزخر به من جمال أوقبح ، أو المنظار الذي ننظر به إلى تلك الحياة التي قد نجهل بعدها وأفاقها … الحياة كالريح التي تأتي كثيرا بما لا تشتهي النفس البشرية أ أو ذاك القطار الذي ما يصل المحطة ، حتي يعود أدراجه في الاتجاه المعاكس ، ما دام يتوفر على قاطرتين ، كالحياة تماما ، ففي الوقت الذي نطمئن إليها تعطينا ظهرها .
“” قرأت كفها “” … قراءة الكف قد تختلف من كف لكف ، خاصة إذا كان كف امرأة مخضب بالحناء الأمازيغية ( زاكورة ) ، فالكف المنبسط والممتد امتداد الطريق اللامتناهي ، وسط الجذب والسفوح والتلال والجبال … كف رملية متلاشية تنساب عبر أخاديدها أشعة الشمس لتتناسخ الألوان على أديم المدينة الطينية التي تمد كفها لكل القراءات ، وليقرأ كل قارئ باللغة التي تحلو له ، وتبقى لغة المكان رمزا مترسخا في تقاليد الإنسان عبر الزمان ، وفي كل محيط المكان .
“” الأعمى “” … العمى المفروض أو المقصود ، ومهما يكن فهنا العميان ، جمع مقصود ، أراد من خلاله الكاتب استحضار نخبة من العباقرة الذين فقدوا البصر ، لكن البصيرة والتبصر حاضرة في الذات المبدعة ، استحضارهم لم يكن من باب السخرية ، لكن من باب التذكير ، على أن العمى لم يكن أبدا حاجزا ضد إثبات الذات ، فمهما عمي البصر ، يبقى العقل والذاكرة والبصيرة متبصرة إلى حين ، انطلاقا من قوله عز وجل : ” وما تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ” وما أكثرها في محيطنا … ويضرب لنا الأمثال ، مؤكدا أن العمى لا يحول أبدا بين المرء وطموحه ، ما بقيت الحواس الباقية متقدة …
لغة المجموعة :” سرير الدهشة ” … لغة شفيفة وكثيفة ، تعج خيالا وترميزا ، وتتميز بنظرة صوفية ثاقبة للحياة … نظرة المبدع الذي يصنع من الكلمات قنابل موقوتة ، إذا لم تدمر… تثمر… قصص لذة للقارئين …
محمد الكلاف
طنجة – المغرب