منتدى ابن امسيك للثقافة
انت غير مسجل
تفضل بالدخول او التسجيل معنا
منتدى ابن امسيك للثقافة
انت غير مسجل
تفضل بالدخول او التسجيل معنا
منتدى ابن امسيك للثقافة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى ابن امسيك للثقافة

منتدى ابن امسيك للثقافة يرحب بكم
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تضاريسُ الفقد

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
د. حسين علي محمد
مبدع جديد
مبدع جديد
د. حسين علي محمد


عدد الرسائل : 28
نقاط : 29864
تاريخ التسجيل : 29/12/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالخميس ديسمبر 03, 2009 4:36 am

تضاريسُ الفقد
أو خمسة مقاطع من ملحمة عنترة

شعر: حسين علي محمد

1-طفولة:
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ

في الركنِ الأقصى
من داري المنزويةِ
في أطرافِ الغابةِ
منضدةٌ تعلوها أتربةُ …
وعليها عُشبُ الصَّبرْ

2-جملة معترضة:
دوَّت في الأُفقِ طبولُ الحربِ
و"عبلةُ" تغفو
في نومتِها الرَّعناءِ
(وتكشفُ عنْ ساقيْها ..
عنْ ثَغرٍ في الظَّلماءِ يُضيءُ)
تُنادي: بعدَ ثلاثينَ أتيتُ
وهذا التوتُ الأبيضُ في كفَّيَّ
رماحُكَ في قلبي
تُشرقُ في قلبي نافورةَ عشقٍ
تملأ ليلي بنجومٍ تتلألأُ في صحراءِ سمائي السوداءِ
تطارحُني الحبَّ،
تشاطرُني الحُلمَ
وعيناها الخضراوانِ كقِنديليْنِ
يُضيئانِ دهاليزَ الدَّربِ
(أكُنتُ أُدبِّجُ في الليلِ حُداءَ القافلةِ
وأحلُمُ يا "عبلةُ"؟)
تُشرقُ شمسُكِ
يرحلُ جيشُ دفاعِ الأعداءِ ..
وتسطعُ في أُفقي أقمارُ الشعرِ / بريقُ العُشبِ / أحاديثُ الليلِ / حنينُ النسوةِ / أوراقُ الحنَّاءِ / زلازلُ قلبي / أعنابُ اليمنِ / طيورُ النَّورسِ / تمْرُ الشامِ …
تضجُّ الذاكرةُ بأقدامِ العبرانياتِ، وأحلامِ الكنعانيَّاتِ، ومِلحُ المتوسِّطِ يُغرقُ سربَ فراشاتٍ .. عاشَ يُغنِّي ـ مثلَ عصافيرِ الجنةِ ـ للحبْ!

3-حديث مستطرد عن "عبلة":
طلعتْ "عبلةُ" من ثبَجِ البحرِ، كبدْرٍ غَسَّلَهُ البَرَدُ،
أنا يا "عبلةُ" من طرْحِ النهرِ،
وقريتُنا العاشقةُ بأطرافِ الدلتا تنتظرُكِ،
عشرةُ أميالٍ أقطعُها نحوكِ، وطريقي عبَّدَهُ خطوي فوقَ الصَّوَّانْ.
يا مُثمرةَ الوعدِ، تعاليْ لنفُكَّ قيودَ صبانا، نسكُنُ في حضنِ الريحِ، فصولُكِ تثمرُ باللوزِ وبالرُّمَّانْ.
تستيقظُ أفريقيا في أشعارِ الفيتوري، أسمعُ وقعَ خُطاها في الأرضِ المُبتلَّةِ، والعُشبِ، و"عبلةُ" تخرجُ وردتُها من شرنقةِ الحرمانْ.
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني
بالقولِ الفتَّانْ
عيناها الخضراوانِ بحُلمِ الفجرِ يمورانْ
ـ أمُّك تبذرُ في الجرحِ الملحَ
وتستلقي في دائرةِ الوهمِ الأسيانْ
تخشى منْ عاصفةٍ أُخرى
أُمي تصرخُ:
-هذي وردةُ نارٍ، فابعد عنها بالحذَرِ الدَّاجنِ يا ولدي
وابعد عن فتنتِها
وليحفظْكَ الرحمنْ

4-أحزان الفارس:
أصبحْتَ أخيراً ـ يا فارسَها ـ في منصف الدهشةِ
ما عادتْ "عبلةُ" تأتيكَ ظهيرةَ أشواقِ الصيف
فتغضَّ الطرفِ كسيراً في خوفْ
عندَ تضاريسِ الفقْدِ تُغنِّي للريحِ الصَّرصرْ
وتسُدُّ البابَ كأنَّكَ لا تسمعُ،
يترقرقُ في كأس الظمآنِ الصبرُ
تُحدِّقُ في وجهِ الموتِ، فأُمُّك ترحلُ
(ستجيئُكَ في الحُلمِ .. فكيفَ ستنسى نظرتَها؟)
"عبلةُ" تنظرُ شوقاُ من خلفِ زجاجٍ يتداخلُ،
وتُجالسُ قطَّتَها
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبخترْ
ـ "يفرجُها ربُّك"
.. ضقتُ بتوبيخِ الأمِّ مراراً ..
لنكوصي المتكرِّرْ

أقفُ على قارعةِ الحلمِ ..
أُحاولُ أنْ أُنشِدَ أُغنيتي الأولى !
(صمتٌ يملؤ أقطارَ الميدانِ، ويغتالُ الأحلامْ)
ـ ولماذا تتشاءمُ إنْ لمْ أنجحْ هذا العامْ؟
لا تقلقْ، سأُحاولُ هذا العامَ .. فإنْ لمْ أنجحْ فالعامَ القادمْ
زمَّ الشفتيْن، وغمغمَ في صوتٍ حازمْ:
ـ إنْ لم تنجحْ هذا العامَ قٌتِلنا بالسيفِ الصَّارِمْ!

5-زنابق للرحيل:
كانتْ ريحٌ في الأفْقِ تهُبُّ
وكان فضاءُ العالم يتفتَّحُ لزنابقِ عشقٍ تُولَدُ،
وقصيدةِ حبٍّ بيضاءَ ستسكنُ في ديوانِ الصمتِ الفاتنِ
كنتُ أخبُّ عل ظهرِ الفرسِ، ويلسعُني البردُ وأرمحُ،
أدفقُ في غاباتِ الجوْزِ، فترشحُ بالعطْرِ وباللهفةِ
.. تُدفئُني، فأُحادِثُ نفسي:
"عبلةُ" لمْ تجرؤ يوماً أن تسقيني ملحاً،
أوْ تستأْسِدُ
أو تتركُني كيْ يصرعَني يأسي
ظلَّتْ كالتفاحةِ ـ تقطرُ عطْراً
تقطرُ ضوءاً وبهاءً ـ
إذْ تجرعُ كأْسي

تحرقُها أنوارُ الصَّهْرِ .. تُحاصِرُ موسيقاها، معصمَها
ترتعشُ على حافَّةِ ليلٍ …
أُمطِرُ في الفجرِ ، وأترُكُ للعشبِ مسافاتٍ بيضاءَ
تُطرِّزُها "عبلةُ" بالعشقِ مليا،
وتُغني ـ كهديلِ حمامٍ
ينقرُ ذاكرتي في أوّلِ صحراءِ الرُّعبْ ـ
(هل يخلعُني في الليلِ القادِمِ جنرالاتُ الحربْ؟)

ديرب نجم 25/2/1984








الهروب

(1)
هذا عرْفُكِ .. مملكتي
أقتربُ من الهيكلِ، أنقشُ رسمكِ واسمكِ
أقفُ أُطالعُ خطوتًكِ البيضاءَ
وهذي الكرةُ الزرقاءُ أراها تتداخلُ في الصحراءِ
المتراميةِ / الكرةِ الحمراءِ
فأدخلُ في مملكةِ الأزلِ
وأتركُ تيجاني قدَّامَ البابِ
وأحملُ أحزاني،
أدخلُ مع أطرافِ اللوتسِ في جدلٍ أخضرَ
: كمْ أنبتَكَ النيلُ عفيًّا!
ها أنت تتيهُ على الأقرانِ
وتنعقدُ على أرؤسِ جمعِ الفقراءِ
إشارة حبٍّ خضراءَ، نُغني
للخيلِ النافرِ في مملكةِ الغضبِ نهاراً"
(نتجمّعُ تحت الليلِ لنهربَ
أو نتشرذمً في حوصلةِ الليلِ المدبِرِ).
ليسَ من البدعةِ أن أحملَ خاتمكِ وأهربَ
من ديجورِ الظلمةِ أخرجُ،
وذبابُ الخوفِ يطنُّ ويملؤ أدغالَ النفسِ خداعاً
(بجنونٍ أحببتُكِ
في هذا الزمنِ الفظ،
وأبعدتُ الوجهَ، وقلتُ:
أُسافرُ، تُفتحُ أبوابُ الهجرةِ قدامَ الجمعِ)
فيسري ظلِّي تحتَ الأسوارِ،
ويتمدَّدُ في الشوكِ المغروسِ بأعماقي نصلُ الحكمةِ،
أرتفعُ، أصيرُ هلالاً
وأُعانقُ مئذنةَ المسجدِ
قالتْ أمي: تحت سنابكِ خيلِ السوءِ يموتُ الأبناءُ
أراهم قططاً خرساءَ
تموتُ من الخوفِ
وترتحلُ فلولُ الأحبابِ
فأعرفُ أني أصبحتُ قرينَ السَّوْءِ
أواجهُ هذا الغضبَ الجامحَ،
أسلحةَ الفقرِ أراها مُشرعةً
ناطوراً كنتُ،
فتندفعُ كلابُ الحارةِ تقضِمُني
وأنا لاأقدرُ أنْ أدفعَ عنْ هذي المزروعاتِ
غُراباً أسحمَ
أحملُ وجهَكِ وأٌغامِرُ
لا أنتظرُ مجيءَ الصبحِ، وأسعى ..
نتخاصرُ في حبٍّ يُثمرُ

(2)
وقفَ الشجرُ اليابسُ ينتظرُ الغيثَ
ويرفعُ ألويةَ الشوقِ إلى الربِّ فروعاً عجفاءَ
يُصلِّي في ظمأِ المحروقِ: إلهي
كمْ أشتاقُ إلى ضمَّاتِكَ فامنحني بركاتِ الغيثِ
وينتفضُ الصَّخرُ،
وتصعدُ من جوفِ الصخرةِ ذرَّاتُ الغضبِ المُبصِرِ
يصهلُ خيلي:
محروقاً كنتُ أُناجيكَ
فهلْ تسقيني منْ مائكَ؟
أو تُؤويني في ظلِّكَ؟
أو تهتكُ سترَ الخوفِ فتصلُ النسماتٌ المُرتقبَةُ للجوفِ
يعودُ الصوتُ المخنوقُ يُحلِّقُ في الأُفقِ
فترحلُ أفراسُ النهرِ،
وتدفعُ باباً موروباً ..
يختلطُ الظِّلُّ، فيصهلُ فرسٌ أشقرُ
: يا أفراسَ النهرِ اشتاقتْ كلماتي للماءِ،
فعوديني بالماءِ
اغبرَّتْ أوراقي
أنتمْ يا صحبي مازلتم تلتقطونَ الأنفاسَ،
وأدلُفُ للجبِّ وأحملُ جُرحي
أغسلُهُ في ماءِ البئرِ، وأُخرِجُ دلْوي …
سوفَ يجيءُ الأطفالُ الخُضرُ، ويحبونَ على بابِكِ
تنتفِخُ الأثداءُ وتُعطي لبناً
دِفئاً
حبا وحناناً
(هذا عصفورُ الفجرِ على النافذةِ
وهذي الحسناءُ أراها
.. ينبعجُ البطنُ .. ويكبُرُ!)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عابد الإبراهيمي
عضو فعال
عضو فعال
عابد الإبراهيمي


عدد الرسائل : 103
نقاط : 30761
تاريخ التسجيل : 08/07/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: رد: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالأربعاء فبراير 03, 2010 1:49 pm

د. حسين علي محمد:
يبدومن القصيدة أننا نقرأ لشاعر من طينة أولئك الشعراء الذين يموتون في الشعر عشقا و افتتانا،و لا أدري لماذا و أنا أقرأ هذه القصيدة أستحضر شاعرين مغربيين رائعين أبليا البلاء الحسن في الشعر وهما الشاعر محمد بنطلحة و الشاعر إدريس عيسى،فهل لأنهما مولعان بهذا البحر /بحر الخبب/الذي عليه قصيدة الدكتور حسين أم لأن ثمة تشابه في الأساليب و اجتراح الأكوان الرحبة الممكنة التي تتيحها اللغة بواسطة الكلام الذي يتخلق منها.
هنيئا لنا بك سيدي الشاعر الدكتور حسين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د. حسين علي محمد
مبدع جديد
مبدع جديد
د. حسين علي محمد


عدد الرسائل : 28
نقاط : 29864
تاريخ التسجيل : 29/12/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: رد: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالخميس فبراير 04, 2010 12:09 pm

عابد الإبراهيمي كتب:
د. حسين علي محمد:
يبدومن القصيدة أننا نقرأ لشاعر من طينة أولئك الشعراء الذين يموتون في الشعر عشقا و افتتانا،و لا أدري لماذا و أنا أقرأ هذه القصيدة أستحضر شاعرين مغربيين رائعين أبليا البلاء الحسن في الشعر وهما الشاعر محمد بنطلحة و الشاعر إدريس عيسى،فهل لأنهما مولعان بهذا البحر /بحر الخبب/الذي عليه قصيدة الدكتور حسين أم لأن ثمة تشابه في الأساليب و اجتراح الأكوان الرحبة الممكنة التي تتيحها اللغة بواسطة الكلام الذي يتخلق منها.
هنيئا لنا بك سيدي الشاعر الدكتور حسين.
شُكراً للمبدع الأستاذ
عابد الإبراهيمي
على التعليق،
مع موداتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د. حسين علي محمد
مبدع جديد
مبدع جديد
د. حسين علي محمد


عدد الرسائل : 28
نقاط : 29864
تاريخ التسجيل : 29/12/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: رد: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالخميس فبراير 04, 2010 12:11 pm

«تضاريس الفقد» .. وتشكيل جذور الانتماء

بقلم: أ. د. صابر عبد الدايم

لها أون لاين ـ 6/4/2005م:
أولاً: مدخل إلى تخوم التجربة (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة)
إنَّ الشاعر الدكتور حسين علي محمد يطمح دائماً إلى التجاوز، ويوغل في تتبع الجديد في عالم الفتوحات الشعرية، ونتاجه المتعدد مفعم بثراء التجربة، وبكارة الرؤية، وغرابة الصور، وهذا النتاج يظل شاهداً فنياً يؤكد أن صوت هذا الشاعر من أنقى الأصوات الشعرية في جيل السبعينيات في مصر.. والعالم العربي.. وهو الجيل الذي يمكن أن نطلق عليه "جيل المقاومة" أو "جيل الصدمة"، والشاعر حسين علي محمَّد صوت بارز في هذا الجيل الذي أدمت رؤاه، واغتالت أحلامه (نكسة 1967م)، وما زال مسلسل الاغتيالات مستمراً، ولكن سلاح المقاومة، لا يصدأ إيقاعه، ولا يخبو وهجه، ولا تنطفئ إشعاعاته.
ويقول د. حلمي القاعود في كتابه: الورد والهالوك: "حسين علي محمد، واحد من أهم شعراء السبعينيات الذين حملوا رؤية صافية نقية، تنبع من فهم واعٍ لهوية الأمة وشخصيتها، وتحركوا من خلال تصور واثق يؤمن بقيمة الفن ووظيفته في مخاطبة المشاعر والأفئدة، وتجييش العواطف والأحاسيس بما يجعل المتلقي، قارئاً أو مستمعاً، شريكاً في العمل الفني بالاستجابة والتفاعل، وليس مجرد مشاهد لا يفهم أو لا يدري ما يُقال".
ويقدم الشاعر حسين علي محمد في دائرة هذه التضاريس المائجة بالتناقضات والصدمات على كل المستويات شهادته الصامدة، ورؤيته المقاومة في دواوينه المتعددة، ومنها: "شجرة الحلم، والحلم والأسوار، والرحيل على جواد النار، وحدائق الصوت، وغناء الأشياء، والنائي ينفجر بوحاً".
وتبوح دلالات هذه الكائنات الشعرية التي قدمها الشاعر إلى الوجود الشعري المعاصر بأنفاس المقاومة.. والبحث عن تشكيل جذور الانتماء عبر ثلاثية (الحب، الحرية، الوجود). وقصيدة "تضاريس الفقد" تتصدر أولى تجارب الشاعر في تجسيد هذا الانتماء الذي يبحث عنه ويحاول تشكيله في هذه التجربة التي اتخذ لها وسيلة من وسائل الأداء الشعري وهي الرمز، من خلال العنوان الآخر الذي فسّر التجربة أو حدد إطارها الفني، وهو "خمسة مقاطع من ملحمة عنترة"، والرمز ـ كما يقول د. علي عشري زايد ـ وسيلة إيحائية من أبرز وسائل التصوير الشعرية التي ابتدعها الشاعر المعاصر عبر سعيه الدائب وراء اكتشاف وسائل تعبير لغوية، يثري بها لغته الشعرية، ويجعلها قادرة على الإيحاء بما يستعصي على التحديد والوصف من مشاعره وأحاسيسه وأبعاد رؤيته الشعرية".
والقصيدة في بنائها تتكئ على توظيف أصداء نفسية عنترة وموقفه من الوجود من خلال قضيته وعالمه الخاص، الذي صارت عبلة "محوراً له". والشاعر هنا لا يجعل من عنترة ضوءاً خارج التجربة، ولكنه تقمَّص هذه الشخصية التراثية، واتحد بها، ونزع عنها ملامحها التراثية وألبسها سمات العصر سلوكاً.. ورؤية ولغة وصوراً، ولم يبق من عنترة الفارس البدوي القديم إلا الصدى الملتهب بالحب، والحلم الفارس الباحث عن الحرية والانعتاق ومعانقة الوجود الحقيقي، والقصيدة في إطار هذه المفارقة تقترب من عنصر "الحكي"، والبناء الروائي، والشاعر جسَّد هذه الدلالة الفنية حين ثبَّت بعض الإشارات الدالة أمام مدخل هذه التضاريس، وقال في إيحاء وإشارة منبئة عن هذا المعمار الفني (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة).
ولأن شخصية عنترة وأخبارها أشبه بالكائن الأسطوري، وأكثر إثارة للخيال الشعبي، فقد آثر الشاعر أن تكون تجربته بعض مقاطع من هذه الملحمة، ولكنه أعاد الشخصية "عنترة، أو عبلة" للواقع المعاصر.. وأدخل كلاً منهما في بنائه السردي، ونزعته الروائية في تجربته الشعرية.
وهو هنا يؤكد: أن القصيدة الحديثة ازدادت علاقتها قوة بالاتجاهات الحديثة في الرواية، وبخاصة تلك الاتجاهات التي تركز على العالم الداخلي للأبطال أكثر مما تركز على الأحداث الخارجية، كما يرى ذلك د. صلاح فضل، وبعض النقاد المحدثين في الربط بين فنون التعبير القولية، والفنون الجميلة.
والقصيدة تبدأ مشاهدها بثلاثة مناظر واقعية تجسِّد سحر الطفولة ومصاحباتها لدورة الزمن في مراحله المكونة له (صباحاً ـ نهاراً ـ مساءً).
وهذا المشهد يصوِّر كل معالم الانتماء، وأشواق البحث عن الجذور، ومن المفارقات اللغوية المخادعة أنَّ الشاعر يتجول في تضاريس فقده، ولكنه يجسد نفسيته وحالته الشعرية ويدين واقعه، في محاولة لإزالة كابوس الفقد، وحين يجعل هذه التضاريس مضافة إلى الفقد، فهو يصوِّر حلماً مفزعاً يخشى تحققه، أو واقعاً صادماً لا يتوقع زواله!!
ولنتأمل الجزء الأول من هذا المشهد:
كانت "عبلة" في غبش الصبح تطاردني
تتمنى لو تغلبني
تحلم.. أن تبصر نخلاً يثمر في الأرض القفر
كانت في الصمت الوداع..
تسقيني سهدي
بغناء حلو يتقطر فيه العطر
ويتجوَّل الشاعر في هذه التضاريس مع محبوبته "عبلة" التي تجاوزت بعدها التاريخي، وتحولت إلى رمز لكل جميل فقدناه، وما زلنا نبحث عنه في سراديب الرؤى، ومدار الانكسارات، وصدمات الهزائم، هذا الرمز تتصدر بؤرته التأويلية دلالة "الوطن" وإشعاعات الحرية، وأشواق العودة إلى عصر الفروسية وشموخ القوة.
فهل يحقق "عنترة العصري" وعوده لعبلة.. ويعود إليها، وقد قهر المستحيل وقدَّم شهادة حريته وميلاده؟.. أم سيظل غارقاً في أحاديثه المستطردة ومساوماته واستسلاماته ومحاوراته وحزنه الداجن؟
والشاعر لا يترك لهذه الإسقاطات الواهمة مجالاً تتحرك فيه أشباحها، ولكنه يلقي في قلب الريح والمواجهة بأحزان الفارس، ويعود للمقاومة، ويعلن تحديه للصحف السوداء، وأبواق العسكر، ويصرخ:
سأدافع عن وطني.. لا وطن العسكر..
وأجاهد.. وأقاتل.. حتى أُقتل دون الفجر الأخضر
وجولة الشاعر في هذه التضاريس تقهر كابوس الفقد، حيث ينطلق الفارس من جديد.. وكأن الرواية "الملحمية" ما زالت تمور بالأحداث والصراعات.. يحكي الشاعر في أسلوب سردي:
كنت أخب على ظهر الفرس.. ويلسعني البرد وأرمح..
أدفق في غابات الجوز.. فترشح بالعطر وباللهفة.. تدفئني..
عبلة لم تجرؤ يوماً أن تسقيني ملحاً
أو تتركني كي يصرعني يأسي
ظلت كالتفاحة تقطر عطراً.. تقطر ضوءاً وبهاء..
ولكن لم تنته الرواية: فهذه تموجات داخل النفس ترفض الواقع المنكسر، وفي النهاية يلجأ الشاعر إلى الحوار الداخلي ليجسد كيان التجربة ويطلق هذه الصيحة التي تشبه دوي الإنذار وأجراس الخطر، فعبلة ما زالت في مهب الريح.. تحرقها أنوار الصَّهر.
وهي.. كما يصور الشاعر ـ لن تستسلم.. ولكن
"تغني كهديل حمام.. ينقر ذاكرتي في أول صحراء الرعب"
وفجأة يشتعل هذا السؤال الثاقب الذي حرَّك المشاهد كلها من جديد
"هل يخلعني في الليل القادم.. جنرالات الحرب"؟؟!!

ثانياً: من ظواهر التشكيل الفني:
يموج هذا النص بكثير من ظواهر التشكيل الفني.. وفي مقدمتها التشكيل اللغوي، والحوار، والتشكيل بالصورة، والتشكيل الإيقاعي.
أ-التشكيل اللغوي:
التشكيل اللغوي له عدة مداخل، منها: اختيار المفردة الشعرية، وخصوصية تركيب الجملة، وارتباطها بمناخ التجربة، وتجسيدها لأجواء الحس الشعبي أحياناً..
ومنها: دلالة الأفعال الحركية وارتباطها بالزمن الذي توحي به التجربة إيحاءً نفسياً وليس خارجياً، وكأن كلّ ما يقدمه الشاعر في هذا النص من مفردات وبُنى لغوية، ما هو إلا إشارات وإيحاءات بما يموج في داخل النفس ومسارب الشعور، والمعنى كما قال النقاد القدامى "في بطن الشاعر" أي في وجدانه وضميره.. ويقول أبو تمام مؤكداً هذا المنحى "عليَّ أن أقول وعليكم أن تتأولوا، ولا يبتعد المتنبي كثيراً عن هذا الأفق التأويلي حين يقول متحدياً:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
ويقول "فاليري" نحن نفكر بالألفاظ، ويقول "عبد القاهر" مؤكداً قيمة النسق في تجلية المعنى، ودور النظم الفني في تجلية الشعور الصادق الصحيح.
والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب، وكان أبو العلاء يشعر بالرنين والصدى الذي ينطلق كدوائر صوتية كبيرة أو صغيرة من داخل الكلمات، وكان في الوقت نفسه يحس بمواقع الارتطام ويركز عليها وكأنها وقع عصاه، ويتحسس بها الأشياء ثم يسير.. ومن شعر أبي العلاء - كما يرى د. عبده بدوي- يتحقق ما ذهب إليه اللغويون من أن التقارب بين المعاني كثيراً ما يكون وسيلة وعلة للتقارب بين الألفاظ الدالة عليها، ولنتأمل بعض مفردات هذا المقطع وتراكيبه اللغوية، في ضوء هذا المنظور:
"في غبش الصبح.. تطاردني" ألا يعلن هذا التعبير بمادته اللغوية "غبش الصبح".. عن طبيعة مناخ وزمان التجربة، وهو كذلك يفصح عن قلق الشاعر وحيرته، وضبابية الرؤية وهو ما زال في أول الطريق؟
والشاعر يستعذب الصراع، وتجمل المعاناة، في سبيل إنجاز ما يريد، وجملته الشعرية في صياغتها ومادتها اللغوية (تسقيني سهدي) تصور هذا الإحساس، فالسهد دائماً قرين العذاب والحرمان، ولكنه هنا يروي المحب الولهان الذي تتمنى منه محبوبته أن تبصر نخلاً يثمر في الأرض القفر بعد الفوز بذلك المحبوب الفارس والتوحد بجذور الانتماء.
والصور المتخيلة التي يرسمها الشاعر لهذه المحبوبة في ممارساتها الطفولية لا تنفصل عن كيان التجربة ولا عن ملامح الفروسية التي تسيطر عليها، يقول: مصوراً ذلك:
تتسلل كي تتفقد كهفي
وحدائقها الفضية تزدان نهاراً.. بقلاع وقباب
ومساءً: بالصور الزيتية:.. للأحصنة المنطلقة
بين تلال وسهول.. للنهر..
ولنتأمل: ماذا وراء هذه المفردات التي يتشكل من تناسقها وتجاورها وتنافرها أحياناً كائن التجربة الشعرية؟! وما هو شكل الإحساس الكامن وراء اختيار القلاع والقباب والأحصنة المنطلقة بين التلال والسهول، والتي لا تصهل في البيداء ولا الطلول.. ولكنها تركض صوب النهر باحثة عن الخصب.. ومصدر الحياة.
والمشهد الأخير من هذه اللوحة ينقلنا فجأة من تضاريس الفروسية إلى تضاريس الفقد، ومن إيقاع الطفولة الحالم الواثب إلى واقعية يقاوم جهامتها الشاعر حين يصوِّر ما آل إليه أمر هذا الفارس الذي تمور مخيلته بالأحصنة المنطلقة، وبالقلاع والقباب: وها هو ذا فجأة لا يملك إلا ("منضدة تعلوها أتربة.. وعليها عشب الصبر")!
وداره كما يحكي ("في الركن الأقصى.. من داري المنزوية.. في أطراف الغابة")!
وإن هذا الإيغال في رسم الحدود المكانية من خلال هذه الألفاظ التي تشبه الأسوار المحكمة، يجسد المفارقة النفسية والمكانية التي تضع الشاعر.. في منطقة التوتر.. والقلق، والصراع، ولنحدِّق في هذه الأوصاف.. وموادها اللغوية التي تكشف عن رفض الشاعر لهذا الواقع الذي تتشكل من قسماته تضاريس الفقد.
فالركن أقصى.. أي أبعد، والدار منزوية.. والانزواء بعدٌ وعزلة وغربة، والمكان غابة.. ولفظ الغابة يبوح بدلالات متعددة تتآزر كلها في إحكام الحصار حول حلم هذا الفارس الذي يحلم بالحب والحرية والوجود.. والانتماء، ولتكن المقاومة مجسدة في الصبر، وحديقته المثمرة التي تمدّ جفاف هذا الواقع بالرواء.. والأمل ـ حتى لو كان من "عشب الصبر".
ولنتأمل من جديد كيف شكل الزمن اللغوي جذور الانتماء، وكيف أفصح عن رؤية الشاعر وعن إصراره على المجابهة ورفض التسلط الزاحف عليه من الموروث الذي يلقي عليه بشباكه ورموزه متمثلاً في الركون إلى السائد والمألوف، والحذر الداجن، وغضب الأم وتحكمها، ومحاولاتها التفريق بينه وبين معشوقته، الحقيقة والرمز، وسخرية الأب حيث الغضب يزمجر، ويواجه الابن هذا الفارس العصري.. ويقول في لهجة شعبية ساخرة:
ماذا ـ يا فالح قالوا ـ في الصحف السوداء؟!!
وتتجلى المقاومة في هذا الموقف المجابه الواعي
"سأدافع عن وطني.. لا وطن العسكر"..
والمشهد الأول في بنائه التكويني يتكون من أربعة جمل شعرية اتبع فيها الشاعر نظام "التدوير الشعري" وتنتهي كل جملة شعرية بقافية متوافقة مع الأخريات (القفر- العطر- النَّهر- الصبر)
(يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عابد الإبراهيمي
عضو فعال
عضو فعال
عابد الإبراهيمي


عدد الرسائل : 103
نقاط : 30761
تاريخ التسجيل : 08/07/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: رد: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالسبت فبراير 27, 2010 3:22 pm

ألأخ الشاعر د.حسين علي محمد:
صباحك و مساؤك فل و سكر:
يكفي أن يثني عليك د.حلمي القاعود لنكون شاعرا كبيرا،فالرجل لا ينطق عن هوى و لا يطلق الأحكام اعتباطا،و قد قرأت له في مظان عديدة منها مجلة"البيان"الكويتية.و أنت أخي حسين يعرفك القارئ من شعرك دون الرجوع إلى أحد ليعرفك له.و قد قد رأيت قراءة د.صابر مثبتة هنا فأردت أن أنبه إلى أمرين:
1-هذه القراءة كان ينبغي أن تكون في قسم"دراسات أدبية" في المنتدى.
2-لا بد من تكبير حجم الخط،فالقارئ إذا كان سليم النظر سيتعب بسبب صغر حجم الخط،و إذا كان حسير النظر سيأنف من قراءته.
أرجو أن تكون ملاحظتي في محلها،
تحيتي و تقديري.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عابد الإبراهيمي
عضو فعال
عضو فعال
عابد الإبراهيمي


عدد الرسائل : 103
نقاط : 30761
تاريخ التسجيل : 08/07/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: رد: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالخميس يوليو 22, 2010 6:13 am

توفي فجر يوم الأربعاء 9 شعبان 1431هـ في المستشفى العسكري بالرياض الدكتور حسين علي محمد الأستاذ في قسم الأدب بكلية اللغة العربية في جامعة الإمام وصلي عليه بعد العصر في جامع الملك خالد بأم الحمام.
نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يغفر له ولجميع موتى المسلمين , إنا لله وإنا إليه راجعون.

منقول
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابن امسيك
عضو فعال
عضو فعال
ابن امسيك


عدد الرسائل : 1310
نقاط : 34632
تاريخ التسجيل : 17/05/2007

تضاريسُ الفقد Empty
مُساهمةموضوع: رد: تضاريسُ الفقد   تضاريسُ الفقد Emptyالخميس يوليو 22, 2010 11:24 am

إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللـهـم انزل علي اهله الصبر والسلوان و ارضهم بقضائك
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تضاريسُ الفقد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» في محراب الفقد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى ابن امسيك للثقافة :: منتدى الشعر-
انتقل الى: